24-أبريل-2019

إحدى مداخل قرية كوكو (تويتر)

على سفوح ولاية جبال جرجرة الواقعة بمنطقة القبائل الكبرى، تقع قرية صغيرة اسمها آث يحيى. تتقاطع الحياة الريفية البسيطة فيها مع مقاومة سكانها التاريخية للغزاة، إذ يعتبر البقاء في تلك المناطق الوعرة شكلًا آخر من أشكال المقاومة.

مطلع القرن الـ16، شهدت منطقة القبائل الكبرى ميلاد مملكة كوكو الأمازيغية على يد عائلة آث قاضي، والتي تلفها كثير من الأساطير

ستشهد هذه المنطقة تحديدًا، ميلاد مملكة كوكو الأمازيغية مطلع القرن الـ16، على يد عائلة آث القاضي، وكلمة "آث" في اللغة الأمازيغية الجزائرية تعني "أبناء"، ومعنى كلمة آث القاضي هي "بنو القاضي" أو "أولاد القاضي".

اقرأ/ي أيضًا: ميلة الجزائرية..مملكة الجنان والمياه تبحث عن مجدها

تُتداول قصّة هذه المملكة التي تأسّست لمقاومة الغزاة الإسبان بافتخار على ألسنة ساكنيها. وتُروى حكاياتها باعتزاز للزوّار القادمين إليها، حيث امتدت مملكة كوكو من ساحل ولاية بجاية شرقي الجزائر إلى غاية الأطلس التلّي، وقد دام وجودها قرابة قرن ونصف من الزمن.

مؤسس مملكة كوكو أحمد آث قاضي

وتعدّدت الروايات التاريخية عن أصول عائلة آث القاضي، إذ تقول بعضها إنها تنحدر من عائلة الأدارسة، وهم سلالة عربية حكمت المغرب منذ القرن الثامن الميلادي، فيما تذهب مصادر تاريخية أخرى، إلى أن أصول عائلة آث القاضي تعود إلى بطن من بطون الحفصيين بتونس. 

ورغم اختلاف الروايات حول شجرة العائلة المنتمية إليها، فالروايتان تتّفقان على انتمائهما إلى المرابطين والأشراف، وكلاهما ينتسبان إلى آل بيت النبي محمد، بحسبهم، وهي منزلة دينية استطاعت عائلة آث القاضي بفضلها أن تصبح قطبًا دينيًا وتحجز لنفسها مركزًا اجتماعيًا في المنطقة.

وشكّل الصراع الإسباني/التركي على السواحل الجزائرية والموانئ المتوسّطية، فرصة لميلاد مملكة كوكو، مكّنتها من لعب أدوار سياسية وعسكرية عبر إقامة روابط وتحالفات برغماتية تصبّ في مصالحة المملكة وأهاليها.

راية مملكة كوكو

وتارة تساند المملكة لأتراك ضدّ الإسبان، وأحيانًا تستعين بالإسبان ضدّ الطموحات التوسّعية التركية، إذ شكّل الموقع الجغرافي الوعر في أعالي الجبال نقطة إستراتيجية في مواجهة الأتراك والإسبان، وفرضت سيطرتها هيمنتها على باقي العشائر القبائلية.

ملك متقلب المزاج

في عام 1583، تولى خلافة محمد بن أحمد، أخوه سيدي عمر آث القاضي، وعرف كحاكم مستبد ذو بأس شديد، يفرض أعمال شاقة على رعاياه ويصادر محاصيلهم الزراعية وينتهك حرمة أراضيهم ويعتدي على ممتلكات غيره من القبائل، ويفرض الضرائب بشكل جائر. 

تواصل سيدي عمر آث قاضي مع الإسبان، فأرسل إلى فيليب الثاني، ثم فيليب الثالث، يطلب العون والمساعدة في صراعه مع الأتراك، وأحيانًا يتمرّد على الإسبان كي يناصر الأتراك، فاشتهر كرجل متقلّب المزاج شديد الانفعال لا يستقرّ على رأي.

قصة الفيل والفتى المنتقم

قصّة طريفة ترويها العجائز للأطفال عن جبروت سيدي عمر آث القاضي، تقول إنه كان لديه فيل ضخم يُفسد الحرث ويثير الهلع، وكان على سكان القرى المجاورة إطعامه على حساب قوتهم وقوت أبنائهم، فقرّر أهالي القرى أن يشتكوا للحاكم سيدي عمر آث القاضي عن حجم الأضرار التي تكبّدوها بسبب هذا الفيل.

مدخل قرية كوكو

اختار أهالي القرى الواقعة في المنطقة، أربعة من أعيانهم، دخلوا على الحاكم، وكان رجلًا مُهاب الجانب، فتقدّم أكبرهم وقد تملّكه الخوف والرعب، وقال له: "اسيدي عمر، الفيل مسكين وحزين ويعيش وحيدًا ويحتاج إلى من يواسيه ويؤنسه فهل نزوّجه ونجلب له فيلة؟"، رغم ذلك أدرك سيدي عمر سرّ مجيئهم إليه وأمر بإعدامهم جميعًا.

أمام تجاوزاته وتسلطه قرّر أهالي القرى التخلّص من طغيانه، فقتلوه في كمين محكم نُصب له، ثم أفرغوا جام غضبهم على الفيل بعد ذلك.

كانت زوجة عمر آث القاضي الثانية حُبلى، وخافت أن تمتد يد الانتقام إليها، فنصحها أهلها بمغادرة المنطقة والسفر إلى تونس، حيث وضعت حملها هناك وأسمته محند بن سي عمر آث القاضي.

 تربّى الفتى بين أحضان أخواله في قصر وزير الداي التونسي، وبعد مضي 16 عامًا، أصبح محند شابًا طويل القامة قويّ البنية وافر النشاط، أدرك قصّة مقتل والده، ومكانة عائلته وقصّة مملكته، فصمّم على استرجاع مجد والده وسلطانه، وطالب من أخواله الدعم والسند في تسخير جيش مدرّب ومسلّح وكان له ما طلب.

قرية آث يحيى التي أقيمت منها مملكة كوكو

سافر محند واستقرّ بجيشه بالقرب من منطقة أجداده، في قرية تسمّى تيفردود. ومن هناك دارت أحداث مختلفة باختلاف الروايات الشفهية المتناقلة.

بين التاريخ والأسطورة

إحدى تلك الروايات، تقول إنه لما بلغ محند آث القاضي مرتفعات آث يحيى، وجد عبدًا صالحًا اسمه سيد علي آث طالب، قال له: "إني راغبٌ في الانتقام لأبي، فهل تكون لي عونًا على ذلك؟"، فرفض الرجل الصالح فكرة الانتقام، ودعاه إلى الصفح والمغفرة وتصالح الطرفان، وتنازل له محند آث القاضي عن أراضي وأملاك والده، وأقام عليها الولي الصالح زاويته القرآنية، وانصرف محند عائدًا إلى أمّه وعائلته.

شكّل الصراع الإسباني/التركي على السواحل الجزائرية وموانئ المتوسط فرصة لمملكة كوكو مكّنتها من لعب أدوار سياسية وعسكرية

بينما تتحدث روايات أخرى عن معارك طاحنة جرت بين محند وبين سكان آث يحيى، وآث يوسف، وآث منغلاث، أسفرت عن عدد كبير من القتلى كان محند من بينهم، حيث دُفن في قرية آث غربي، طاويًا بذلك قصّة عائلة آث القاضي، التي بقيت جزءًا من الموروث الثقافي لسكّان المنطقة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

الزاوية التيجانية.. قِبلة العشاق ومورد النُسّاك في الصحراء الجزائرية

جزائر الأبواب الخمسة