باستخدام الألوان الطبيعية المستخلصة من التوابل والنباتات المحلية، انطلقت رحلة أسرة "قاديري" لبعث تقاليد صناعة الزرابي في ولاية تيميمون جنوب البلاد. ونجحت الابنة نور الهدى قاديري، المتخصصة في الهندسة البيوطبية، في إعادة إحياء تقنيات قديمة في استخدام الأصباغ الطبيعية.
عائلة قديري أعادت جزء من التراث الثقافي لمنطقة " قورارة"من خلال تحويل الزرابي المصنوعة يدويًا إلى رمز آخر للهوية الجزائرية
في ولاية تيميمون، الواقعة في الجنوب الغربي للجزائر، ألوان طبيعية حارة ودافئة سرعان ما وجدت طريقها إلى الزرابي منذ قرون عديدة.لكن من بين مئات أنواع السجّاد مختلفة الرّموز والأصباغ، تبدّد كل شيء، ولم يتبقَّ منها غير زربيتي قصر فاتيس بألوانها السبعة، والدوكالي.
شيء ما حرّك نور الهدى قاديري، المهندسة البيوطبية، لتشرع في رحلة عائلية طويلة لاسترجاع المبدّد وتجديد المسترجع، والبحث له عن أسواق داخل البلاد وخارجها.
إنّها رحلة مشوّقة بدأها والدها رفقة زوجته عام 2003، حين أطلقا سوياً جمعية لحقوق الطفل والمراهق، فكان من أهدافها منح تكوينات حرفية للمراهقات تصنع لهنّ هوية مهنية يواجهن بها إكراهات الحياة .
أسئلة مثيرة
بحرص من الوالدين، استرجعت نور الهدى التراث الثقافي لمنطقة "قُورارة"، وتحويل الزرابي المصنوعة يدويًا إلى رمز آخر للهوية الجزائرية، مما فتح أمامها أبواب الأسواق المحلية والعالمية.
تستذكِر الحرفية المتخصصة في صناعة الصوف والخيوط المغزولة بالطريقة التقليدية والطبيعية، تفاصيل المشروع الثوري المتوج بجوائز وطنية ودولية. تقول لـ "الترا جزائر": "أنشأ أبي حسين قاديري وأمي فتيحة بن قرين ورشة الخياطة والنسيج لتعليم المراهقات فنون الحرفة سنة 2003.
منذ عودة السياح للمنطقة، طرح السياح الفرنسيون سؤالاً استفزازياً للذاكرة. كانوا يقولون لهما، وبصفتهم أبناء معمرين عاشوا هنا، قادهم حب الاستطلاع للتعرف على أماكن إقامة ذويهم الراحلين بعد استقلال البلاد: لماذا لا نعثُر على الزّرابي التي نراها في الصور العائلية؟ ما مصيرها؟ ولماذا وأين وكيف اختفت كل تلك المباهج البصرية؟".
تم العثور على أنواع تلك الزرابي في كل من متحف باردو والفنون الشعبية في العاصمة، بعدها كان من السهل أن يتم تصوير تلك النّماذج لتُبعث من جديد في أرض الواقع
في واقع الحال، وضع السياح الأصبع على الجرح المفتوح، فقد ضاعت كل الزرابي السابقة، ولم يتبقَّ منها غير الصور الجامدة في الأرشيف باستثناء زربية فاتيس الناجية الوحيدة وسجاد دكالي.
وتعلّق نور الهدى: "قرر والدي وأمي، إطلاق الورشة من جديد، الإجابة عن هذا السؤال بالبحث في الأرشيف. عثرا على أنواع تلك الزرابي في متحفي باردو والفنون الشعبية في العاصمة. بعدها، كان من السهل أن يتم تصوير تلك النّماذج لتُبعث من جديد في أرض الواقع."
التكوين وطريق الحلّ
طرحت مشكلة حادة تتعلق بمجالات التدريب، مثلما تضيف المتحدثة، فأغلب ما هو متوفر في مراكز التكوين المهني لا تتلاءم من حيث التقنية مع طريقة نسج الزرابي المحلية، فهي من النّوع الأملس المسطح. فيما تُركّز تلك البرامج غير المكيفة مع طبيعة تيميمون على الزرابي الناتئة بحبات تشبه الكسكس، والمسماة "البربوش".
تشرح الحِرفية أكثر قائلة: "لقد حلّ والدي الإشكال باستدعاء أستاذة حرفية من ولاية غرداية، لتلقين طريقة نسج الزرابي الملساء، بحُكم تشارك سجاد غرداية والمنيعة مع الزربية المحلية، في هذه الخاصية".
مكّنت طريقة تحويل الصور السابقة إلى نماذج حية من استرجاع 60 نوعاً من زرابي المنطقة.لكن مشكلة إضافية ستُطرح لاحقاً، وهي أنّ الزرابي والمنسوجات الأصلية كانت كلها تصبغ في الجزائر بألوان طبيعية لم تعُد موجودة إزاء غزو الملونات المصنعة.
لقد تمّ استدعاء الحرفية فاطمة كعباش من الأغواط، التي تكفلت بتعليم طريقة الصباغة الطبيعية بلون واحد مستوحى من صناعة البرنوس والقشابية. ولم يكن هذا هو المطلوب، بما أن زرابي تيميمون متعددة الألوان مثل طبيعتها. وكان لزاماً البحث عن تقنية لإعادة بعث الألوان بشكل مُطوّر.
ألوان الزرابي ومُعجزة "كارين"
تروي نور الهدى شيئاً عجيباً فتقول لـ "الترا جزائر": "مكنت أبحاث واتصالات العائلة مع جمعيات دولية من العثور على معجزة. كانت تلك المعجزة سيدة فرنسية ستينية تسمى كارين شراك. عاشت هذه المرأة في خمسينيات القرن الماضي في تيميمون، وتعلمت خلال مراهقتها وشبابها طرق الصناعة. وقد تمّ جلب هذه الحرفية إلى هنا لترد لنا بضاعتنا من خلال تربّصات مكّنت أخيراً من الاسترجاع النّهائي لتقنيات صباغة الزرابي، بما فيها ورشة التحكُّم في الألوان، التي دامت بين 2009 و2011. وأُتبع ذلك بتربّص موضوعه التنسيق بين الألوان، أشرفت عليه الفنانة التشكيلية الجزائرية المُقيمة بالخارج خديجة صديقي".
وهكذا، تُضيف: "استرجعنا 120 نوعاً، وكان بعضها بلا هوية، فمنحناها أسماء جديدة لأحياء وقُصور القورارة، مثل كالي وسيدي ميمون، وأحراش، وأغلاد، ودكالي، وليشتة، وغيرها من التسميات التي أُطلقت على ثلاثمائة وستين قصرًا ضمّتهم تيميمون في العصور السالفة".
أعشاب وحشرات
تخصّصت نور الهدى ( 34 سنة) في صناعة الألوان الطبيعية، المستوحاة من النّسيج النباتي للمنطقة وحتّى من الحشرات. وهي مدينة في ذلك لوالدتها التي تُعدّ الخبيرة الأولى في هذا الاختصاص، فتقول: "فيما نجلب الصوف من غرداية، أنتج الألوان من التوابل مثل السواك والحنّة وقشور الرمان والشاي. هذه المواد الأربعة تمتاز بخاصية التثبيت، فلا تحتاج سوى للخلط مع الصوف بمقادير متساوية في الوزن، بعد غليها مدة ساعة كاملة.
كما تضيف أيضاً "عشبة الأزاز أو تقوفت، والألّال وهو نوع من الشيح، فضلا عن حشرة معيّنة من فصيلة الدعسوقيات، وقشور البصل والفوّة بالإضافة إلى النيلة، في إنتاج أصباغ أخرى تحتاج لمُثبِّت وسيط هو الشبّ الذي يفتح مسامات الصوف لتمثّل تلك الألوان بمقادير متنوعة، طبعًا بعد غليها مدة ساعة من الزّمن تحت درجة حرارة تقارب الأربعين".
وقالت نور الهدى: "لقد اقترحتُ رفقة والدي مشروعًا لنقل تلك المعرفة المكتسبة والمتحكَّم فيها في مجال الصباغة التقليدية. قمنا خلاله بتكوين 75 شابًا وشابة، فضلًا عن 15 آخرين لقّنوا طرق زراعة النّبات المُستعمل في الصباغة بالتعاون مع معهد الفلاحة الصحراوية، في إطار برنامج مشترك بين الداخلية الجزائرية والاتحاد الأوروبي، بحثًا عن ديمومة هذه الزرابي التي أعادتها صور فوتوغرافية للحياة، كي تبقى خالدة في عالم الموجودات إلى الأبد، فهي ليست منتجات فلكلورية بل أدوات منتجة للثروة المادية فيما يصطلح عليه الاقتصاد الإبداعي والتنمية المستدامة".
وتعترف الشابة اليافعة ريحانة صوفي مرزوق التي خضعت لتربّص في هذا المجال بجدوى التكوين موضحة: " تلقيت دورة تكوينية على مدار عشرة أيام، فاستفدت من مختلف التقنيات وأنجزت نماذج أعمال، فتحت ذهني على أفكار أنوي تنفيذها في مشروع خاص بملابس الأطفال".
اقتصاد إبداعي
اليوم، تُسوَّق هذه الزرابي المنتجة بطريقة طبيعية بشكل ناجح جدًا، فهناك طلب متزايد عليها لعدة أسباب توجزها المتحدثة كما يلي: "تتميز هذه المنتجات بخاصية أنها طبيعية، وثمّة توجّه كوني لاستعمال المنتج الطبيعي برز بعد جائحة كورورنا.
هذا عامل مساعد لنا في التسويق، سواء هنا أو في الخارج، فقد حققتُ مبيعًا محترمًا في معرض بروكسل، كما حقق أبي أرقامًا مهمة في أسواق أعياد الميلاد بباريس.
لكن قبل ذلك، أدخلنا تعديلات عصرية على تلك الزرابي بتكوين خاص بالتصميم أشرف عليه الخبير الجزائري خير الدين حساين، فتم التخفيف من الوزن ومن كثرة الرموز حتى تكون سهلة الحمل والنقل، ومتماشية مع الثقافة البصرية العصرية التي تميل إلى تفادي التشبع بالأشكال والرسوم".
وتعدد منتجة الألوان الطبيعية عوامل خارجية لرواج السلعة فتضيف: "ثمة انتعاش سياحي في المنطقة، وبالإضافة للزوار الأجانب، ثمة ظاهرة جديرة بالملاحظة والاهتمام لأنها في نمو وتزايد. فكثير من المهاجرين الجزائريين المقيمين في أوروبا صاروا أكثر ترددًا على تيميمون، وهؤلاء باتوا أكثر إيمانًا باقتناء الموروث الجزائري وإبرازه بناءً على ظاهرة تنامي الحروب الثقافية في عالم ما بعد كورونا، المندرجة في مسمى معارك الجيل الخامس. كما أنّ هناك طلبًا على هذه المنتجات، من قِبل صالونات التصميم الجزائرية لاستعمالها في الديكور الحديث المعتمد بالأساس على بصمة الموروث الأصيل، فأكثر الصنائع إدهاشًا هي تلك المالكة لجذور قادمة من أعماق التاريخ".
تدريب السياح
أتاحت المشاركات المتعددة لهدى ووالدها التعريف بالمنتجات خلال المشاركة في معارض جزائرية ودولية وفي تلك التي تنظمها السفارات الأجنبية بالتّنسيق مع السلطات الجزائرية.
تعكف قاديري على إنجاز إقامة للفنّانين مبنية بالطين مدمجة مع ورشة نسيج وتقديم نموذج جديد في التلقين الحرفي للتقنيات، موجّه خصيصًا للسياح الأجانب المترددين على تيميمون
كما مثّلت الأسرة الجزائر في ملتقيات اليونسكو، وتمكن من نيل عدة جوائز دولية. نالت الجائزة الأولى في إطار البينالي المنظم بين وزارة الثقافة الجزائرية والمعهد الفرنسي بالجزائر.
نفّذت رسوماً جُسدت في زرابي موضوعها الفقارة التقليدية وآلة الشقفة المستعملة من كيالي الماء لتوزيع الحصص المتساوية للفلاحين. كما حازت قبل ذلك الجائزة الأولى في مسابقة "جيل سياحة" المنظمة بين بعثة الاتحاد الأوروبي بالجزائر ووزارة السياحة والصناعة التقليدية.
في عام 2024، فازت نور الهدى قديري بجائزة في مسابقة "توتال إنرجي" نظير تقديمها مشروعا يتعلق بالاقتصاد الدائري، حيث تقول: "قدمتُ مشروعًا لإنتاج الأصباغ والصوف بطريقة تمكن من استرجاع الماء المستعمل. تستهلك هذه الصناعة الكثير من الماء، لذا يتيح مشروعي إعادة استعمال الماء بعد تصفيته، فيما تُحوّل بقايا الأصباغ إلى مواد عضوية"
قبل سنوات، شرعت المهندسة، التي تعكف على إنجاز إقامة للفنّانين مبنية بالطين مدمجة مع ورشة نسيج، على تقديم نموذج جديد في التلقين الحرفي للتقنيات، موجّه خصيصًا للسياح الأجانب المترددين على تيميمون.
وفي هذا الصدد، تُعقّب: "أرغب في تقديم تكوين للسياح الأجانب الراغبين في تعلّم نسيج الزرابي وكذا الصباغة التقليدية، وتدوم هذه التكوينات ثلاثة أيام تُمكّنهم من اكتساب تجربة غنية. فقد سبق لي العام الفارط أن كوّنتُ حرفية برتغالية في ورشتي، وفق منظور السياحة الفنية الذي يتيح للقادمين الانغماس مع الحياة التقليدية والتعرف على الثقافة الشعبية، والعودة بمهارة ينفذونها في منتج يأخذونه معهم، ويدفعهم لتطوير مشاريعهم المستقبلية".
ختامًا، تُرسل رسالة محبة لوالديها، فتقول بشيء من الاعتراف وردًّا للدَّين: "في الأصل وقف أبي وأمي وراء ورشات كل هذه الأفكار منذ 2003، قبل أن أستلم منهما المشعل منذ العام 2019، ولا يزالان مستمرَّين فيما أركز بطريقة ما في مجال التطوير والمبيعات".