عندما حطّ سيرك إِل فلُوريِليجيُو (تعني باقة الورود)، رحاله لأول مرة في الجزائر العام 2003، لم يكن أحد يعلم، بمن فيهم مالكه الراهن ماكسي ستيف، بأن خيمته العملاقة تلك وكشاكيله المزركشة، لن تغادر هذا البلد إلى الأبد.
مديرة سيرك عمار لـ "الترا جزائر": عندما تزوّج عمار من فرنسية تسمّى ماري وكانت ابنة مالك حديقة حيوانات، تولدت لديهما فكرة إدماج الحيوانات المتوحشّة المروضة في الحلبة وهكذا كُتب لعمار مجدٌ عالمي بين الحربين العالميتين
انقضت عشرون عامًا ولا يزال هذا الصرح الجوال يجوب البلاد طولًا وعرضًا، كما لو أن قصة حب ستولد بين أطفال الجزائر وطقسهم الطفولي المتجدد. على هذا النحو سيقوم إل فلوريليجيو بتقديم عروض خاصة بتوصية من وزارة التضامن الوطني للتخفيف من صدمات أطفال بومرداس المنكوبين عقب الزلزال المدمر الذي ضرب ولايتهم، قبل أن يعيد الكرّة، العام 2004 عبر جولات في بضع ولايات جزائرية نظمتها وزارة الثقافة عبر الديوان الوطني للثقافة والإعلام.
ونظير الإقبال الكثيف قرّرت عائلة طوني الإيطالية، مالكة هذا السيرك، وذات التقاليد العريقة الممتدة على مدار مائتي عام، أن تنشئ في 2005 شركة ذات شخص وحيد حملت للمفاجأة الكبيرة اسم "سيرك عمار".
بدأ المولود المتجدد عروضه بهذا الاسم الخفيف على اللسان والمشحون في الذاكرة الشعبية، منذ العام 2006، وكان يفترض أن تدوم جولته سنة كاملة، غير أن المغامرة أبت أن تتوقف إلى اليوم.
روح جزائرية
تشرح، إيزابيل جيلييِّ مديرة سيرك عمار لـ "الترا جزائر" بعض تفاصيل القصّة، وهي تجول بنا في رحلة التعرف على "داخل" هذا السيرك الذي اكتسب هوية جزائرية قائلة: "في واقع الحال عائلة طوني هي واحدة من أعرق مماليك السيرك في إيطاليا إلى جانب عائلتي كازارتيلي و أورفاي، فمالكه الحالي ماكسي ستيف هو من الجيل الخامس لهذه العائلة، التي كان لها سيناتور شهير جدًا هو جون داريكس خلال خمسينيات القرن الماضي.
تستطرد: أقول لك هذا لتصحيح معلومة شائعة تخلط بين الغجر وممتهني السيرك، فجل أرباب السيرك هم في الواقع أبناء عائلات ثرية و نبيلة، قبل أن تعود لصلب الموضوع موضحة: "في الحقيقية إن استعمال تسمية (سيرك عمار) التي صارت علامة مملوكة للعائلة في البلدان المغاربية هو تدوير و إعادة إنتاج تقاليد جزائرية عريقة في هذا المجال، فعمّار المنحدر من ولاية برج بوعريريج شرق الجزائر كان تاجر خيول هاجر إلى فرنسا ثم مارس هذه المهنة في إنجلترا. قدّم الرجل في أوائل القرن الماضي عرضًا غرائبيًا يسمى "المغارات العجيبة"، فجمع ما بين فنتازيا الخيول والرقص الشرقي محققًا نجاحًا باهرًا في فرنسا.
عندما تزوّج عمار من فرنسية تسمّى ماري وكانت ابنة مالك حديقة حيوانات، تولدت لديهما فكرة إدماج الحيوانات المتوحشّة المروضة في الحلبة، وهكذا كُتب لعمار مجدٌ عالمي بين الحربين العالميتين، فخلد اسمه بين الروّاد الذين أدخلوا الحيوانات المفترسة في نسق السيرك، ثم حقق شهرة صاخبة في أوروبا والجزائر وتونس والمغرب ومصر، وعليه فإن ربطه بهذه التسمية ترسيخ أبدي للبصمة الجزائرية، فهذه الأرض ذات تقاليد تاريخية في السيرك".
تدريبٌ يوميٌّ
وسط الخيمة العملاقة تتدرب أولغا الكولومبية منذ الصبيحة على بروفتها الخاصة، فيما لا يتوقف فتى أثيوبي عن النط بقدمين في خطوات متوازنة، فيما يحرص الهندي صابي على الاعتناء بالفهود والأسود، أما مجموعة من الفتيات من جنسيات متنوعة فانهمكن في الرقص الكوريغرافي لتقدم لوحة فنية خلال سهرة الليلة.
تقول إيزابيل وهي تداعب قطتها تيتوش لـ " الترا جزائر": " يعتقد الناس أن السيرك هم الفنانون الذين يقدمون الوصلات البهلوانية و الأكروباتية، أو مروضو الحيوانات المفترسة، وهذا خطأ، لدينا 17 لاعبًا يقدمون العروض المتنوعة لكن عدد أفرادنا هم قرابة 50 شخصًا، فمهندسو و فنيّو الإضاءة و الصوت وتسليم أدوات اللعب للبهلوانيين و ممسكو حبال الأراجيح و الموسيقيون والراقصون هم ضمن قطع أساسية في المشهد، فالجميع يشكلون واحدًا و الواحد في خدمة الجميع، على هذا الأساس نحن عائلة متكاملة تتشكل من أفراد يتحلون بروح المجموعة".
تدبّ حركة دؤوب بين الفنانين الذين يعيشون في بيوت جاهزة مبنية على شكل حاويات تستجيب لدورة حياة هؤلاء المترحلين على الدوام، وقد تستمر الرحلة إلى أعوام طويلة، كما لو أنهم قبيلة جيتانية تبحث عن السعادة في الطريق، مع فارق جوهري فهؤلاء المتغربون عن مساقط الرأس والأوطان، ينتمون لعدة جنسيات، فرنسية وإيطالية وكولومبية وإثيوبية وفنزويلية، وهندية، وبولندية وجزائرية، ليسوا غجرًا، لقد أضحى عالم السيرك ولا يزال بيتهم الكبير.
تضيف إيزابيل موضحة: "كما ترى فهم شبان أقوياء مرنون ويتمتعون بفورة الشباب، وهم يتدربون كما الرياضيين على فترات في اليوم كي يقدموا عرضًا لا يستغرق غير ساعتين".
السمراء والفهود
أولغا إسبيخو، كولومبية، 35 سنة، انضمت لسيرك عمار منذ ست سنوات، وعلى مدار تلك الأعوام التي أمضتها في الجزائر، تحولت من راقصة إلى مروضة فهود ونمور، تلخص لـ "الترا جزائر" مسارها ضاحكة: "بدأت كراقصة لأني رشيقة وعاشقة للرقص بالفطرة، ثم ولأني أحب المغامرة والتحليق المنتج للأدرينالين، صرت لاعبة أكروباتية على الحبال، ولكوني محبة للحيوانات فقد عرض عليّ ستيف تقديم لوحات مع الفهود والنمور، فترددت أول الأمر لخطورة ذلك، غير أني سرعان ما بدأت تعلم تقنيات وفنون التعامل معها بحب ومودة، من خلال الحديث والإشارات وهذا رائع للغاية لأنه مزيج بين الصعوبة والمتعة".
لم تزر السمراء الكولومبية بلدها منذ عامين، وتوصيفا لهذا الإحساس الممزق تروي: "أحيانًا أشعر بالحنين لبلدي كولومبيا، خاصّة عندما أضيّع احتفالات أعياد الفصح ورأس السنة الميلادية، والأقسى عندما لا أحضر عيد ميلاد أمي، لكني مع مرور الوقت نجحت في ترويض هذا الشعور الموحش لأن مهنتي تتطلب الترحال الدائم، لكن و بصراحة أنا مرتاحة هنا في الجزائر، فهو بلد رائع و بديع، وأهله طيبون وكرماء، و نساؤه جميلات و رقيقات، أعشق مناظره السحرية، فهناك مدن جميلة و شواطئ بديعة و صحراء ساحرة، أعرف بجاية وعنابة و القالة و الطارف و بشار و غرداية، و أفضل شيء أحبه هنا هي الخضار الجزائرية، مثل البطاطا و الطماطم و لذلك أداوم على اقتنائها من الأسواق الشعبية العابقة بروائح التوابل و البهارات المختلفة".
تعايش وتسامح
تعلق إيزابيل التي تعيش في الجزائر منذ عقدين، ولا تعود لفرنسا سوى مرة أو مرتين في العام: "لم أستطع حضور جنازة جدتي، لأن أهلي لم يتمكنوا من الاتصال بي بسبب انشغالي بترتيب عرض في منطقة نائية، لذا فجدتي لا تزال حيّة بالنسبة لي ما دمت لم أحضر دفنها، كما ضيعت مراسيم زفاف شقيقتي فنابت عني والدتي جوزيت، 78 سنة، التي ترافقني لفترات طويلة هنا فهي تحب الجزائر جدًا وتستحلي العيش بها حتى لو كان ذلك في سيرك متنقل".
أحاول أن أفك شيفرة الإستحلاء فترد إيزابيل: "صدقًا الناس طيبون وكرماء ومتفتحون واجتماعيون، عكس فرنسا حيث العلاقات الاجتماعية باردة. يمكنك هنا أن تكسب صداقة الأشخاص في لحظة حتى داخل سيارة تاكسي لأن البشر حواريون للغاية هنا. على مدار السنين نسجت بيننا علاقات حميمية، فأنا أقضي شهر رمضان في الجزائر في كل عام ولم أتخلف عن ذلك سوى في سنتي كورونا. وفي ذلك الشهر أحضر طعام الإفطار مع صديقتي نبيلة لنتناوله معا، كما يحيي أصدقاء فرنسيون عيد الفصح ويقدمون الطعام لمن يشاركهم من الجزائريين. يشعر العاملون معنا في السيرك وهم من جنسيات مختلفة بالدفء الأسري والتكافل الاجتماعي بين الناس، وحقا كما يقال لا أحد يموت جوعًا في الجزائر".
ولتعدد الجنسيات تشخص المتحدثة ما يمثله هذا العالم لها ولبقية الأجانب: "السيرك فضاء للتسامح واحترام الآخر، نحن مختلفون بيد أننا نتمكن رغم ذلك من العيش سويا. وهذا هو الأهم في عالم يعيش توترات فظيعة وقاسية".
حيوانات عائلية
في لباسه الهندي يهرع صابي سارابيتسينك نحو قفص النمور والأسود ليتفقد أحوالها، مقدمًا الطعام، وهو يقوم بهذه الوظيفة باكرًا، أسأله عن كيفية تعلمه ترويض المفترسات فينظر إليّ متعجبا ثم يرد لـ " الترا الجزائر" مقهقهًا: " لقد تربيت معها في البيت لأني من إقليم البنجاب، وعلاوة على الأسود أقدم عروض التماسيح والجِمال".
يبدو الأمر كما لو أني أحدث رجلًا من قبائل الإسكيمو عن ماهية الجليد، فيبتسم صابي ليضيف: "أشعر بتوتر دائم ذلك أن أصعب شيء يؤرقني هو الوضع الصحي لهذه الحيوانات المفترسة، عندما تمرض أمرض معها، وأتعافى لمّا تتعافي، فهم جزءٌ، لا بل أفراد من عائلتي كأولادي تمامًا".
أما عن الشعور بالاغتراب الدائم جراء الانقطاع لسنوات طويلة عن العائلة فيعقب عليه: "أفتقد أحيانًا زوجتي وأبنائي، لكن وسائل التواصل الاجتماعي الرقمية تساعدني في كسر الشوق من خلال التواصل معهم صوتًا وصورة بهاتفي النقال، تبدو لي وسائل التكنولوجيا خادمة للعواطف الإنسانية خاصّة مع شيوع هذا النمط الجديد في الأعوام الأخيرة، لقد كان الوضع صعبًا في التواصل العام 2008 وهي السنة التي قدمت فيها من إيطاليا إلى الجزائر لأن تلك الوسائل لم تكن متاحة بشكل كثيف".
مولود جديد
تعلق إيزابيل: "لم يخطئ صابي عندما قال إن الحيوانات هي جزء من عائلتنا الكبرى، فلقد شاهدت بأم عيني مروضين يبكون كما الأطفال موت حيواناتهم جراء الهرم أو السرطان، فبعضهم يتعلق بها كما لو أنهم يرجون أن تبقى معهم، أو يرغبون في أن يدفنوا معها".
هذا عن علاقات الألفة بين البشر والحيوانات، أما قصص الحب الحقيقية، الناشبة في دهاليز السيرك وكواليسه، فكثيرة وبعضها ملهم، هكذا ففي الأعوام الماضية شهدت الخيمة العملاقة، حفلة زفاف بين فارسة بولندية مع أكروبات كولومبي، وقد قرّرا التوقف عن الترحال للاستقرار في بيت هادئ في مكان ما في هذا العالم الفسيح بعدما جمعوا ما يكفيهم من مال، لكن مفاجأة هذا العام هي أن سيرك عمار ينتظر مولودًا جديدًا، فتكشف إيزابيل باسمة: "معنا فنانة و زوجها و هما كولومبيان، و هي الآن حامل و قد قرّرت أن تضع مولودها في الجزائر، و نحن ننتظر ذلك بشغف كبير و حتمًا سننظم حفلًا بهيجًا للمناسبة السعيدة".
حلم الجيجلي
تمكن هذا السيرك الذي تطبعه روح عمار الخالدة، من استقطاب جزائريين صاروا جزء من عائلته الكبيرة، لكن قصة أسامة الجيجلي، مثيرة للأحلام، حيث يقول لـ " الترا جزائر" مبتسمًا: "أنا موسيقي أعزف على البيانو، ولم أكن لأصدق بأني اشتغل منذ عامين كاملين في سيرك عمار الذي حضرت عروضه طفلًا وكان حلمي حياتي أن أعمل فيه".
رغم أن مهنته تتسم بالتنقل الذي يحرمه من تمضية عيدي الفطر والأضحى رفقة أسرته، فإنه يضيف عكس المتوقع: "مقابل افتقاد نكهة الأجواء العائلية، تعلمت هنا فضيلة الانضباط الصارم واحترام الوقت، كما مكنني ذلك من السفر الدائم والتجوال المستمر، للتعرف على عديد المناطق الجزائرية خاصة في الجنوب الكبير والصحراء الجزائرية".
أما رفيقه وهو موسيقي من ولاية بجاية التحق للعمل كعازف إيقاع – باطور- منذ سبعة أشهر: "كان صعبًا عليّ التعود على هذا النمط من الحياة المترحلة، لكن سرعان ما اندمجت في الجو العام وهو مريح للغاية، في واقع الحال تركنا عائلاتنا كي نكتسب عائلة جديدة، رغم اختلافاتنا العرقية والجنسية والدينية والثقافية. وهذا مكسب رائع على الصعيد الإنساني، فنحن نتبادل الأفكار والطعام في كنف الاحترام المتبادل، وأحيانًا نحتفل معا في المناسبات السعيدة".
وتأكيدًا لقيمة أخلاقية كبرى ارتقى فيها السيرك إلى مسرح ملهم للتعايش الفريد رغم تعدد الجنسيات يضيف أسامة: "حقًا رغم تعدد الأصابع فنحن يد واحدة، لا فرق بين جزائري وكولومبي وهندي وإيطالي وفنزويلي وإثيوبي وفرنسي، فجميعنا يحترم ثقافة ودين كل فرد، كما نشترك يوميًا في تقديم وجبة سعادة يومية للجمهور. روح السيرك هي أن تدخل البهجة في قلوب الأطفال وأن ترسم البسمة في وجوههم، رغم تضحيات الترحل الدائم، فهذا العالم السحري صنع لهم ومن أجلهم".
إيزابيل لـ "الترا جزائر": صدقًا الناس طيبون وكرماء ومتفتحون واجتماعيون، عكس فرنسا حيث العلاقات الاجتماعية باردة. يمكنك هنا أن تكسب صداقة الأشخاص في لحظة حتى داخل سيارة تاكسي لأن البشر حواريون للغاية هنا
في الختام تروي لي إيزابيل جيلييّ هذه القصة المعبرة، فتقول في تأثر عريض: "التقيت البارحة،رجلًا رفقة كوكبة أطفال، وقد تأثرت حينما قال لي إنه حضر قبل عشرين عامًا أول عرض لنا في قسنطينة العام 2004، ولأنه لم ينس تلك اللحظة فقد أحضر أطفاله، إن هذا يعيدني لقصّة أحد منشطي هذه المؤسسة واسمه داريكس طوني، ففي ستينيات القرن الماضي احترق سيركه بالكامل فقرّر من فرط الإحباط أن يتوقف عن هذه المهنة، فدخل عليه طفل حاملًا معه حصالة نقود راجيًا منه أن يعيد ترميمه كي تستمر طقوس الفرح و تنتفي الأحزان، فأطلق داريكس جملته الشهيرة " طالما هناك أطفال، سيكون هناك سيرك دائمًا و إلى الأبد".