06-أبريل-2019

ناجي بن ناجي/ المغرب

أُشيع قبل سنوات أنّ الجنرال مدين المدعو توفيق (1941) قائد جهاز المخابرات الجزائرية (1990 - 2015)  قد قال ذات دكتاتوريّة: "أنا ربّ الدزاير"، وقد آمن الكثيرون أنّه ربّ الجزائر حقًا فهو لا يُرى، لا تُنشر له صُور، يفعل ما يريد والجميع يخاف عقابه ويرجو رضاه، وقد تبيّن في الأخير كم كان الأمر أكثر تعقيدًا من قصّة رب ورعيّة خاضعين يصطفي منهم من يشاء.

حين كانت تتفكّك تدريجيًا أسطورة ربّ الجزائر الواحد، كانَت أرباب أخرى قد تشكّلت في العشريّة السوداء وبدأت تتضخّم

لكنّ الجنرال توفيق قبل أن يُحيله إلى التقاعد، سنة 2015، الرّجل المتمرّس على الانقلابات عبد العزيز بوتفليقة (1941) ويفكّك جهاز الاستعلامات والأمن الذي كان يرأسه، كان قد تركَ عشرات الضباّط والموالين وطرق استعمال عديدة. وحين كانت تتفكّك تدريجيًا أسطورة ربّ الدزاير الواحد، كانَت أرباب أخرى قد تشكّلت في العشريّة السوداء وبدأت تتضخّم مع انتعاش أسعار البترول في السوق العالميّة، حتّى أنّ رجلًا بسيطًا قد قفز سريعًا من خبير حسابات خاص، إلى مستورد حصري لسلع واسعة الاستهلاك، فُتحت أمامه البنوك والموانئ والإدارات، هكذا صار الجميع يعرف رجل المال، القريب من قصر الإليزيه أسعد ربراب (1944) المقرّب من الجنرال توفيق والدّاعم للجنرال علي غديري المترشّح للانتخابات الرئاسيّة الحاليّة، لقد ظلّ طويلًا  يتحكّم  كليًا  في استيراد البطاطا والزيت والقهوة والسكّر حتّى أنّ الواحد صار يردّد: "لولا ربراب ما ناكل بطاطا ما نقليها، ما نشرب قهوة ما نحلّيها"!

في منتصف نهار أوّل جمعة من شهر آذار/مارس 2019، كنّا بضعة عشرات في ساحة أوّل ماي، لمحتُ عند وصولي بعض المثقفين والناشطين والكثير من الرايات الوطنيّة ومن آلات التصوير، الجميع كان يبتسم، بعد ربع ساعة من الوقوف بدأت قوّات الأمن تدفعنا في اتّجاه معاكس لشارع حسيبة، نحو موقف سيارات الأجرة، وبدأت في إطلاق القنابل المسيلة للدموع، لم يتفرّق المتظاهرون إلاّ في البداية، ثمّ التف الجميع حول البنايات المجاورة عائدين إلى ساحة أوّل ماي، وقبل أن نصل اليها كانت قوّات مكافحة الشغب قد أغلقت الطريق أمامنا، بعد ساعة من المدّ والجزر وصل المتظاهرون من طرق أخرى ومن المساجد المجاورة بعدما فرغوا من صلاة الظهر، كانت قوّات الأمن حينها قد تراجعت عن محاولات عزلنا.

عندما وصلنا إلى ساحة أوّل ماي، كان المتظاهرون، وهم يقصدون شارع حسيبة، يمرون بفضول دون أن يتوقّفوا طويلًا عند مجموعة صغيرة من عشرين شخص أو أكثر بقليل كانت تلتفّ حول شخصيّة ما في وسط السّاحة، كان الأشخاص ينادون "بريزيدون، بريزيدون"، عندما اقتربت منهم صرت أرى وأسمع بوضوح أكثر: "ربراب بريزيدون"، لم يكن غير أحد مليارديرات أفريقيا وأغنى رجل في الجزائر يبتسم بينهم بتصميم، لقد كانوا يحيطون بخزنة مال ثقيلة!

عند عودتي إلى البيت كانت الأخبار قد بدأت تتوالى على بعض القنوات وعلى شبكات التواصل الاجتماعي، أوّلها كان سقوط الدكتور حسن بن خدّة شهيدًا وسط المتظاهرين بالقرب من قصر الشعب، ولم يكن هذا الشهيد غير ابن بن يوسف بن خدّة (1920- 1962) رئيس الحكومة الجزائريّة المؤقتة (1961 - 1962) الذي انقلبت على شرعيته مجموعة وجدة التي كان عبد العزيز بوتفليقة أحد أعضائها الذين امتطوا مدرعات جيش الحدود كي يدخلوا العاصمة نهاية صيف 1962.

كم كانت رمزية وفاة بن خدّة أمام قصر الشعب، بعد سبعة وخمسين سنة من الانقلاب على السلطة المدنيّة التي كان على رأسها والده، في احتجاجات ضدّ رمز من رموز هذا الانقلاب، يحكم الجزائر منذ عشرين سنة، هل يكون التاريخ بهذا قد عاد بنفس الأسماء ليصحّح أخطاءه في الماضي؟ هذا هو السؤال الذي يطرحه الآن كلّ من يتأمّل من الجزائر حركة التاريخ.

كما انتشرت سريعًا، على شبكة الإنترنت وعلى بعض القنوات التلفزيونيّة، صور قيل إنّها لعمليات تخريب وسطو وقعت بعد سقوط الظلام في ساحة أوّل ماي، كانت إحدى هذه الصور لشباب يحملون شيئًا معدنيًا كبيرًا يكون حسب التعاليق خزنة المال الخاّصة بمحطّة خدمات أوّل ماي التي تمّ نهبها، كان الشباب يقفون في نفس المكان تقريبًا الذي كان يقف فيه الملياردير الجزائري أسعد ربراب في النهار، لكن سرعان ما تبيّن كذب هذه الأخبار واتضحَ أنّ الشباب لم يكونوا غير متطوعين لتنظيف السّاحة من بقايا المسيرة وأنّ ما كان يُظنّ أنّهُ خزنة مال ثقيلة لم يكن غير موقد كبير للطبخ لا يصلح لشيء!

بعد أن أبعد العسكرُ بوتفليقة عن الحكم إثر وفاة بومدين، اجتاز صحراء كبيرة قبل أن يعود سنة 1999 محمولًا على أكتافهم

بعد أن أبعد العسكر عبد العزيز بوتفليقة عن الحكم إثر وفاة حاميه الرئيس هواري بومدين (1932 - 1978)، اجتاز صحراء كبيرة قبل أن يدخل مجدّدًا العاصمة الجزائرية سنة 1999 محمولًا على أكتافهم، التي سيتخلّى عنها بعد حرب طويلة لتثبيت حكمه الذي كان من المفترض أنْ يدشّنه سنة 1979، انتهت هذه الحرب بإضعاف كلّ مؤسسات الدّولة، توسيع عدد الجنرالات وتضييق انتماءاتهم وتعيين قائد لهم موال له، كما نجح في تقوية أجهزة موازية كجهاز الأمن الوطني، وتغيير الدستور وتركيز كلّ السلطات في يده وتمييع كلّ شيء، هكذا بدا أنّه قد حقّق كلّ طموحاته إلاّ واحدًا! فهذا الرّجل، الذي يرقد الآن معلول الصحّة في إحدى مستشفيات جنيف، قد أدرك أنّه لا يخرج ولا يدخل العاصمة الجزائرية إلّا على أكتاف العسكر، وأنّ قدره مرتبط بهم، وقرّر أنّه إن كان لا بدّ أن يُحمل على أكتاف العسكر فلن يكون ذلك إلاّ كرئيس.

لكنّ هذا الرّجل، في رحلته نحو الموت رئيسًا، تلقى مفاجأتين غير سارّتين لم يتوقّعهما ولم يخبره بهما أحد، الأولى الجلطة الدماغيّة التي أصابته سنة 2013 والثانيّة خروج الشارع قبل شهرين فقط من موعد الانتخابات احتجاجًا على عهدته الخامسة، قضت الأولى عليه كشخص يحبّ الظهور والمراوغة وربّما تقضي عليه الثانيّة كرئيس مدى الحياة. في هذه الأثناء يكون العسكر قد فكّروا طويلًا، فما الذي وصلوا إليه؟ وهل ستصرّ أكتافهم على حمل رئيس، حيّ أو ميّت، مرّة أخرى؟