01-سبتمبر-2022
عبد المجيد تبون، إيمانويل ماكرون (الصورة: لوديفوس ماران/أ.ف.ب)

عبد المجيد تبون، إيمانويل ماكرون (الصورة: لوديفوس ماران/أ.ف.ب)

بعودة ماكرون إلى فرنسا ونزوله بمطار باريس، بدأ تقييم الزيارة التي دامت ثلاثة أيام أو 72 ساعة وعرج خلالها الرئيس الشاب إلى العاصمة ووهران متوقفًا عند العديد من المحطات، ومثيرًا الكثير من الجدل، ليس جزائريًا وفرنسيًا فحسب، وإنما أوروبيا أيضًا، إذ تساءل البعض "هل استطاع مسؤول الإليزيه إذابة الجليد بين دولتي ضفتي المتوسط؟"، في حين اتجه آخرون إلى طرح تساؤلات أكثر براغماتية مفادها ماذا حققت فرنسا من زيارة ماكرون إلى الجزائر؟

ماكرون  رفض الإجابة على أسئلة الصحفيين هذه المرة حول قضايا تتعلق بالحريات في الجزائر وطلب منهم عدم إقحامه في ملفات داخلية

ولم تكن زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون للجزائر كسابقتها، فهذه المرة جاءت في سياق خاص وظرف استثنائي سبقه برود غير معهود في العلاقات الجزائرية الفرنسية وقطيعة اقتصادية وتباعد سياسي وتنافر ثقافي، برز أكثر من خلال رغبة المسؤولين الجزائريين في استبدال الفرنسية تدريجيًا بالإنجليزية، وأزمة غاز عالمية تزداد حدة مع اقتراب فصلي الخريف والشتاء، وتهدد الدول الأوروبية بالعودة إلى عصر التدفئة بالحطب، في حال وقف التموين من روسيا، فليس من السهل على هؤلاء إيجاد البديل.

وبالمقابل وفي الضفة الأخرى من المتوسط في الجزائر، تواجه هذه الأخيرة تحديات أمنية تفرضها الظروف الجيوستراتيجية التي تعيشها دول الجوار، وأيضًا مساع لتحقيق صناعة حقيقية ونقل الخبرة والتكنولوجيا في جميع المجالات والقطاعات الاقتصادية، ورغبة في انتزاع اعترافات أكبر في ملف الذاكرة مع الطرف الفرنسي، وقطيعة مع إسبانيا التي شهد موقفها قبل أشهر انقلابًا بخصوص قضية الصحراء

كل هذه المعطيات تجعل العارفين بخبايا العلاقات الجزائرية الفرنسية يجزمون أن زيارة ماكرون جاءت في الوقت المناسب وستكون زيارة تبادل المصالح وطي الخلافات، فهل تم ذلك؟

مضمون إتفاق الشراكة المتجدد

في ختام زيارته، للجزائر وعلى مستوى مطار هواري بومدين قبل مغادرة البلاد، وقع الرئيس ماكرون رفقة الرئيس تبون اتفاق الشراكة المتجدد، وهو عقد من خمس صفحات يتضمن جملة من النقاط منها عقد مجلس الأمن بين الدولتين مرة كل سنتين، مع إمكانية عقده استثنائيًا قبل ذلك إذا اقتضت الضرورة، وتطوير الشراكة في مجال الصناعة الطاقوية والطاقات المتجددة والغاز، وتشكيل لجنة من المؤرخين الفرنسيين والجزائريين لأرشفة المرحلة الاستعمارية بطريقة علمية ناهيك عن نقل التكنولوجيا في مجال الصحة والفلاحة والسياحة.

وتضمن اتفاق الشراكة استحداث صندوق استثمار مشترك، ومشاريع اقتصادية في الأفق لاسيما الاستثمار، وخلق مناصب عمل خاصة بالشباب ناهيك عن التعاون في المجال الثقافي عبر إنتاج أفلام سينيماتوغرافية مشتركة وترجمة الكتب بين اللغتين الفرنسية والعربية وخلق مؤسسات ناشئة وستارت آب.

نقاط قوة الجزائر

هنا، يقول المحلل السياسي إسماعيل دبش، أن الرئيس الفرنسي زار الجزائر لأول مرة بموقف مهتز  مقارنة على ما كانت عليه العلاقات في السابق، أين كانت الكفة تميل لصالح الفرنسيين من حيث الوزن الدبلوماسي والثقل السياسي عند زيارة مسؤولي الإليزيه للجزائر، طيلة عقود من الزمن.

فماكرون هذه المرة رفض الإجابة على أسئلة الصحفيين حول قضايا تخص الجزائر وطلب منهم عدم اقحامه في ملفات داخلية، خلافًا لما كان عليه الأمر في السنوات الماضية، وأضاف دبش في تصريح لـ"الترا جزائر": "بين قوسين يمكن القول انه اعتذار عما صدر عن ماكرون سابقًا فيما يعرف بتصريحات الأمة المسيئة للجزائر".

وذهب المتحدث أبعد من ذلك مؤكدًا أن زيارة ماكرون جاءت في ظرف تدرك فيه فرنسا أن الجزائر وجدت بدائل اقتصادية أخرى غيرها سواءً داخل الاتحاد الأوروبي أو خارجه على غرار الصين وروسيا وتركيا وإيطاليا، كما أن فرنسا أبلغت الجزائر أنها مستعدة لفتح صفحة جديد مبنية على أساس المنفعة المتبادلة والاحترام ومبدأ الشراكة وفق أساس رابح _رابح، وترفض أن تكون سوقًا للتخلص من فائض السلع الفرنسية، وتبحث عن استثمارات حقيقية مستقبلًا".

وأعطت زيارة ماكرون دفعًا جديدًا للدبلوماسية الجزائرية التي استطاعت أن تسيطر على التغيرات التي تشهدها المنطقة، ووجهت رسالة واضحة لإسبانيا والمغرب مفادها أنها لا تزال القوة الأولى بالمنطقة ولديها أوراق بديلة للضغط على الدول التي تحاول الاصطياد في المياه العكرة.

ورغم أن الزيارة لم تحمل أي جديد حول ملف الذاكرة ما عدا مسألة تشكيل لجنة مشتركة بين البلدين لإعادة كتابة التاريخ، لكن الاتفاقيات المتعلقة بإعادة النظر في مسألة منح التأشيرة والتي قلصت في وقت سابق وكذلك التعاون في المجال الطبّي على غرار الاتفاقية الموقعة مع باستور تخدم الجزائر".

وبخصوص الجانب الأمني، يرى دبش أن مجلس الأمن الذي اتفق الطرفان على عقده مرة كل سنتين بين الدولتين لمناقشة المتغيرات الإقليمية لاسيما فيما يخص الجانب الأمني يصب في مصلحة الجزائر وسيمكنها من إيجاد سبل لتطويق المنظمات المصنفة في خانة الإرهاب على غرار "الماك"، وحتى أولئك الذين يحاربون الجزائر من وراء البحار.

ماذا جنت فرنسا من هذه الزيارة ؟

وتعد أحد أهم مكاسب فرنسا من هذه الزيارة صفقة الغاز التي سبق لماكرون وأن نفاها في تصريحات صحفية، رغم أن اتفاق الشراكة الموقع في ختام الزيارة أكد وجودها، إذ يفترض بناء عليها رفع كوطة فرنسا من هذا المورد الطاقوي الهام خلال الأيام المقبلة.

كما أن هذه الخطوة ستسهل لفرنسا ولوج السوق الإفريقية، فزيارة ماكرون يراد من خلالها البحث عن ورقة للتوسط في هذه المنطقة، ناهيك عن أن باريس فقدت نفوذها نوعًا ما في الجزائر بعد القطيعة التي حدثت خلال الأشهر السابقة، نتيجة تصريحات ماكرون ضد الأمة الجزائرية، وذلك لصالح دول أخرى، إذ ظهر لفرنسا جليًا أن الجزائر لم تتأثر من هذا التباعد، ووجدت أسواقًا بديلة، لذلك فهذه الزيارة جاءت لفتح صفحة جديدة وإعادة بناء خارطة علاقات قائمة على أساس التوازن والاحترام المتبادل، وهو ما يخدم باريس أيضًا.

من جهته يعتقد المحلل السياسي توفيق بوقاعدة، أن زيارة الرئيس الفرنسي للجزائر حملت عدة خصوصيات لاسيما وأنها جاءت في فترة تشهد فيها العلاقات بين البلدين جمودًا بعد تصريحات ماكرون المسيئة لتاريخ الأمة الجزائرية.

ويقول بوقاعدة في تصريح لـ"الترا جزائر": "شخصيًا أرى أن هدف الزيارة بالأساس هو محاولة إعادة تشكيل خارطة جديدة للعلاقات، لاسيما وأن الطرف الأخر أحس بالخطر بعد أن اتجهت بلادنا الى حلفائها القدامى على غرار الصين وروسيا وتركيا كبدائل جديدة عن السوق الفرنسية، وبالتالي فإن الورقة الاقتصادية في هذه الزيارة كانت الأهم لفرنسا التي بادرت لتعزيز مكانتها في السوق الجزائرية والبحث عن زيادة تدفق الغاز في ظلّ استمرار ارتدادات الحرب الروسية الأوكرانية التي لا تزال تلقي بظلالها على سوق الطاقة في العالم ومخاوف ماكرون من خريف وشتاء باردين.

كما يعد الجانب الأمني ثاني ورقة بعد الطاقة سعت فرنسا لكسبها خلال هذه الزيارة، خاصّة وأنها بحثت مع نظرائها الجزائريين قضية الصراع في القارة السمراء، فمسؤولي الإليزيه يعتبرون أن الجزائر مصدر استقرار في أفريقيا، إذ أن التوافق بين حكومة مالي المؤقتة والجزائر أسال لعاب الفرنسيين الذين تقربوا من مسؤولي المرادية لتليين موقفهم.

العلاقة بين الجزائر وفرنسا تظل من بين العلاقات الأكثر تعقيدًا بسبب الماضي الاستعماري

وفي النهاية تظلّ العلاقات الجزائرية الفرنسية مصنفة ضمن أكثر العلاقات الدولية تعقيدًا، وصعوبة للدراسة والتحليل، فالماضي الاستعماري الذي دام 130 سنة، وملف الذاكرة يشوشان دائمًا على صفاء العلاقات المستقبلية.