موت القريب يحوّل غربة الجزائري إلى جحيم.. جنائز عبر اللايف للمحرومين من تشييع آبائهم

شكلت الهجرة حاجة إنسانية منذ القدم، وبات البعد عن الأوطان بحثا عن الحرية والاستقرار رغبة وحلم الكثيرين في العالم، ممن تدفعهم العوامل الاقتصادية والاكراهات السياسية إلى هذا الخيار طواعية أو قسرا، لكن القلوب مهما ابتعدت الأجساد تظل معلقة بالأوطان، ويتجلى ذلك خاصة في لحظات الفقد التي يشعر فيها المرء أن أهله ووطنه أغلى ما يملك.

أمام الهاتف الذكي، يصطف المعزون لتقديم التعازي، ومشاركة أهل الميت في الغربة مصابهم 

لا شك أن الانتقال إلى العيش بعيدا عن الوطن الأم، غالبا ما يترك آثار وتبعات نفسية وعصبية لدى المغترب، فليس من السهل ترك الدفيء العائلي، ومغادرة أمكنة وأزمنة صُقلت في ذواتنا. ولعل أصعب اللحظات التي يخشاها أي مغترب، أن يأتيه هاتف يخبره بفقدان أحد الوالدين أو رحيل قريب عزيز، فحينها ستصبح المصيبة مصيبتين، ولا عزاء يمكنه أن يعوض ذلك الشعور القاصم.

كسبت المال وخسرت الروح

وفي سياق ذكر بعض تجارب المغتربين مع محنة فقدان الأولياء، يقول نصر الدين " يَعتقدُ الناس أن ديار الغربة حوض من الجنة، لكنها في الحقيقة أقرب إلى قطعة من جهنم حينما يرن هاتفك النقال في منصف الليل، يَهمسُ لك صوت غريب ودون مقدمات معلنا "باباك مات" بمعنى "والداك في ذمة الله".

يروي نصر الدين، محاسب مالي في سلسلة مطاعم "بيتزا اكسبريس" وسط بريطانيا، جُرح فراق والده ما بعدما فقدان والدته خلال الأزمة الصحية كورونا وهو بديار الغربة. قال محدث "الترا جزائر" ليس ثمة شيء أصعب في حياة المغترب مثل سماع خبر رحيل والديه أو أحد الأقارب. وذكر أنه عندما يبلغ مَسامعك أن الوالد يحتضر، يرافقك هاجس الخوف من خسارة الوالدين عن بعد، وستعيش تحت ضغط نفسي رهيب.

وأضاف أن تفقد والديك وأنت بديار الغربة، هي تجربة حياتية صعبة ومؤلمة، يلاحقك فيها إلى الأبد العذاب النفسي أينما حللت وارتحلت، ويسكنك الفراغ ومشاعر الاختناق.

وتابع: "غادرت والدتي الحياة، لم أتمكن حينها من السفر بسبب الحجر الصحي، كان الأمر أقل وطأة ومرارة، لكن بعد وفاة الوالد أصبح الحمل أثقل من ذي قبل".

وأردف "ينزل نبأ وفاة أحد الوالدين كصدمة كهربائية، يصيبك الشلل والاحساس بالاكتئاب، وبشكل سريع تتداخل تفاصيل كثيرة، المسافة بين البيت ومطار "هيثرو"، ما هو توقيت اقلاع الطائرة؟ هل أصل قبل أو بعد انتهاء من الدفن؟ هل أتمكن من ألقي آخر نظرة على جثمان والدي؟".

أصبت بانهيار عصبي 

تعيش السيدة نهاد، ممرضة في عيادة خاصة في مدينة كيبيك الكندية، متزوجة وأم لوالدين، تقول إن البعد عن الوطن صعب وموحش حتى وأنت وسط عائلتك. وأشارت أن ثمة  فراغا عاطفيا يعيش بداخلك ويسيطر على حياتك.

لم ترغب السيدة أن تسافر إلى الخارج أبدا، سافرت رفقة زوجها من أجل العمل والاستقرار بكندا، لكن الشعور بالخوف كان يطاردها، نظرا لكونها تركت خلفها والدين مُسنين ويعانين من أمراض مزمنة.

تُلخص السيدة نهاد حياتها بعد وفاة والداتها بشكل مفاجئ وهي في مدينة "كبيك" بالصدمة النفسية:" أصحبت أشعر بالوحشة والوحدة أكثر من ذي قبل.

وتابعت أنها لم تتمكن من قبول خبر رحيل والدتها، وقالت:" أصبت بانهيار نفسي وعصبي، لم أتمكن من حضور مراسيم الجنازة إلا بعد يومين من دفن والداتي، كانت لحظات صعبة".

وختمت محدثنا أنها لم تعد قادرة على أن تعيش تجربة ثانية، وقررت الاستقرار بصحبة والدها المسن، تعتني به لعل وعسى أن يسكن جراح فقدان الوالدة..

العنصر النسوي أكثر تأثرا 

وعن التحليل النفسي للأثار المترتبة عن فقدان الأهل عن بعد بنسبة إلى المغترب، قال مقرآن لخضر، مستشار الطب النفسي في الصحة العمومية، إن التعامل مع المشكلة يختلف باختلاف الأشخاص. مضيفا أن العنصر النسائي أكثر عرضة إلى الانهيار النفسي والعصبي من العنصر الرجالي.

وفسر ذلك على أن النساء أكثر ارتباطا عاطفيا بالوالدين والأهل وحتى الأرض. وأردف أن الاغتراب ليس هدفا أساسيا في حياة المرأة، ماعدا المرأة الشابة التي ترغب في متابعة دراستها في الخارج، أو تلك التي تسافر رفقة زوجها الذي يختار ديار الغربة من أجل العمل والاستقرار والحياة الأفضل. 

القطيعة العاطفية

وفي سياق متصل، أشار المستشار النفسي، أن الرجل قد يتزوج بامرأة أجنبية تحمل ثقافة مغايرة ونمط حياة مختلف، فيصاب بالانفصال العاطفي، أي القطيعة بين عواطفه وذكرياته الماضية أو حتى الحاضرة.

وزاد: "هناك من المغتربين من يفقد والديه أو أحد أقاربه دون أن يترتب عن ذلك الشعور بتأبين الضمير أو الاحساس بالحزن، وقد سُجلت حالات لا يهتم ولا يبالي المغترب بحضور مراسيم الدفن أهاليه".

ولفت أن القطيعة العاطفية ليست حالة مرضية بالنسبة إلى المغترب، بقدر ما هي نتيجة لخلق شعور دفاعي تجاه المشاعر السلبية للغربة وفقدان الأوطان. وختم أن القطيعة العاطفية تساعد وتشتغل على محو الذكريات والتنشئة العاطفية ولو بشكل قسري، تسمح بتجنب الصدمات كرحيل الوالدين عن الحياة.

التكنولوجيا والتواصل اليومي

وبالنسبة لكثيرين ممن يعيشون في ديار الغربة، باتت الوسائل الرقمية اليوم وسيلة للتقارب وتقوية الروابط مع وطن الأم والأهل. ومهما تباعدت المسافات وبفضل التقنيات التكنولوجية أصبح التواصل المباشر بين الأبناء المغتربين والوالدين والأهل يتم بشكل يومي، يتبادلون الحديث والنقاش والشؤون الحياة اليومية.

وعلى الرغم من الجوانب الإيجابية لوسائل الاتصال الحديثة التي تخفف من آلام الاغتراب والبعد عن الأهل، إلا أن جوانب سلبية تسجلها هذه الوسائط، على غرار فقدان الدفء والارتباط العاطفي والشعوري مع المحيط الاسري، فثمة من يُوهم نفسه أن التواصل التكنولوجي يعد بديلا عن الحضور الجسدي والنفسي، وهو ما سيكتشف خطأه لاحقا.

حضور مراسيم الدفن على المباشر

وفي هذا الصدد، رصدت "التر جزائر" مراسم جنائز عبر بث مباشر" اللايف"، تَسمح لأفراد او عائلات تعيش بديار الغربة من متابعة على الهواء مباشرة تشييع جثمان أو فقيد، إذ يَقف شخص بنقل عبر الهاتف الذكي كامل أطوار التشييع من الغسل إلى الخروج من البيت إلى غاية عملية الدفن.

بعدها يصطف المعزون أمام الهاتف الذكي يقدمون التعازي، ويشاركون أهل الميت في الغربة مصابهم ويتعاطفون مع أهل الفقيد، ويحاولون من تخفيف من أحزانهم وشجونهم.

توسع استخدام ثلاجات حفظ الجثث 

 علاوة على ذلك، بات استخدام ثلاجات حفظ الجثث منتشرا، حيث تسمح للمغترب بحضور مراسيم الجنازة، كما سجلت عدة مبادرات من أبناء الجالية الجزائرية بالخارج بالتبرع بمبردات حفظ الجثث عبر مساجد وجمعيات خيرية، تُتيح  للمغترب من حضور مراسيم دفن الأهل. وانتشرت مؤخرا في بعض قرى مناطق القبائل الكبرى، مبادرات من هذا النوع.

في الختام، تبقى الغربة تجربة إنسانية، قد لا تكون دوما اختيارا، بل تدفعنا إليها إكراهات الحياة، نترك جزءا من ماضينا وحاضرنا، حصادها ليس حتما أزهارا بل نتلامس أشواكا هي من حوض التجربة.