09-فبراير-2022

في مخبر صيدال الجزائري (تصوير: رياض قرامدي/أ.ف.ب)

ليست هي المرة الأولى التي تشهد فيها الجامعات الجزائرية وخبراتها من الكفاءات خاصة من الأطباء نزيفا حادًّا، فكلّ سنة يختار حاملو الشهادات العليا الهجرة إلى فضاءات علمية أرحب ومهنية أوسع وأكثر اهتمامًا بالعقول، فأين الخلل؟

 في ظرف أربعين سنة فقدت الجزائر 50 في المائة من العدد الإجمالي للباحثين والأساتذة الجامعيين والطلبة الذين استفادوا من منح التكوين بالخارج

في نِقاش بين كوادر جزائرية حول هجرة الأدمغة، طرح الأستاذ يوسف بوعندل وهو مهاجر منذ نهاية ثمانينات القرن الماضي إلى بريطانيا، فكرة أن الهجرة ليست قصرية أو إرادية بل هي "رحلة للإبقاء على الهوية الأكاديمية".

اقرأ/ي أيضًا: مخترعون جزائريون.. تحت عدسة التجاهل

ولفت الأستاذ بوعندل إلى أن من عرف قيمة العلم بين جدران الجامعات التي تحترم الطالب لا يمكنه أن يفكر أن يبقى ولو لحظة يكافح عقولًا بالية ويصارع في إقناع مؤسسات بحثية عن جدوى التقدم ومعنى طالب باحث ومعنى الإنجاز الأكاديمي والبحثي، في إشارة منه إلى حجم البيروقراطية التي تعرفها الجامعة الجزائرية لأسباب ذكرها تباعًا.

يتحدث البروفيسور وهو من كان أستاذًا في جامعات بريطانية وأستاذًا زائرًا لعديد الجامعات في أمريكا وأوروبا وغيرها من المؤسسات البحثية منذ خروجه من الجزائر في العام 1986، معللًا ظروف الهجرة فيما يلي: تمييع المستوى الأكاديمي أولًا، وإهمال مستوى الأستاذ الجامعي ثانيًا، وتسييس العِلم ثالثًا، وهذا محصلته في الأخير جناية على منظومة القيم في البحث العلمي وهروب الكفاءات ليس إلا نتيجة.

ظاهِرة عالمية

بالأمس واليوم وغدًا، تظلّ هجرة الكفاءات ظاهرة عالمية وليس خاصية جزائرية، هكذا يعتقد كثيرون ممن مروا على مرارة الهجرة في بداياتها، إذ تعترف الأستاذة سميرة سوسطاح بأنها منتج لمدرسة جزائرية ولازالت ممتنة لأساتذتها، لكنها في المقابل ذاقت نعيم الفضاء الحرّ وتحقيق الحُلم، والأفكار بعدما قررت الهجرة، مددة على أنها اختارت هذا الطريق للإنجاز العلمي  والابتعاد شيئا فشيئا عن البيئة السامّة التي تلفّ جدران الجامعات.

لا يمكن لأي طالب جزائري على مشارف إنهاء الدكتوراه أن يتخيل أن تلك السنوات التي قضاها بين المكتبات والمحاضرات وإنجاز أطروحته لينتهي به الأمر في انتظار أن توافق الجامعة على أن يقدم دروسًا بنظام الساعات دون أن يقبض أجرته السنوية وليس الشهرية؟  سؤال يطرحه الباحث في كلية العلوم الاقتصادية بجامعة بومرداس شرق الجزائر عبد الرحيم مولاي، ليضيف سؤالا آخر: هل يمكنه أن ينتظر لأعوام أخرى للظّفر بمنصب يليق بتعبه وجهده في السّنوات الماضية؟ أم يقبل بمنصب طبيب في ولاية من الولايات بأجرة لا تغطي حتى ثمن الكتب التي كان يفتينها في أحد المقاييس الدراسية وهو في كلية الطب؟

هذه الأسئلة تعجّ بها صفحات التواصل الاجتماعي في مجموعة الدكاترة البطالين، وليس غريب جدا أن يظلّ طموح أكثر من 15 ألف حاصل على شهادة دكتوراه بطال معلقا، دون أن يحلقوا عاليا ولو من وراء البحار خصوصا إن علمنا أن كل الوعود التي قدمتها وزارة التعليم العالي لم تكن سوى تسكين لوجع ينخر جسد قطاع البحث العلمي، دون البحث فعليا عن القضاء على المرض بل الأمراض التي أنهكت الجسم العلمي والجامعي في الجزائر.

مُسكِّنات؟

"المغادرة لا تعني شيء، المهمّ هل ستحمل الرُّوح معك؟ هذه الجملة سمعتها من عدد من كبار أساتذة العلم والمعرفة في عدد من الجامعات الجزائرية، دوّنتها في العام 2004، في تحقيق صحفي دام أكثر من 56 يوما مع عدد من أساتذة الجامعات الجزائرية ممن فضلوا البقاء في الجزائر وهي لا زالت تئنّ من ويلات العشرية السوداء، أساتذة جامعات بالعاصمة الجزائرية وتيزي وزو وقسنطينة ووهران، وغيرهم من الطلبة الباحثين في تخصصات علمية مختلفة، وعدد من التواقين لإتمام دراساتهم العليا في الجزائر، ولكن أين المفرّ؟

موضوع هجرة الأدمغة متجدد سنويا، إذ كشفت أرقام غير رسمية عن هجرة ما يقارب الـ 500 ألف كادر بشري من إطارات ذات شهادات جامعية عليا وأساتذة جامعات وباحثين خلال فترة 1991 -2005، لتقابلها بعد ذلك انحسار بسيط في العجرة، لتعود مجددا بعد سنة 2010 إلى غاية يومنا هذا.

تقول الأستاذة الجامعية بجامعة العلوم والتكنولوجيا بباب الزوار فريدة لعبيدي لـ "الترا جزائر"، إن هجرة الأدمغة ليست علامة جزائرية بل هي علامة لكلّ الدول النامية، ولم تكن تتحقق هذه الهجرة ما لم تتوفّر جملة من الأسباب أملتها ظروف الحياة الاجتماعية، وتغذيها يوميًا الاختلاف التكنولوجي والثقافي بين الدول، تستهدف إيجاد بيئة تساعد على التحصيل العلمي وتحسين المستوى المعيشي.

وفي سياق متصل، لفتت المتحدّثة أن هناك عامل آخر يستدعي هجرة العقول وهو "مستوى حرية الفكر والأسلوب العلمي لإدارة المجتمعات المتقدّمة، إذن في اعتقادها فالهجرة هي مسكِّن لآلام عدم احترام العلم والبحث، وليس الهروب".

 العقول المهاجِرة

في منتصف شهر نيسان/أفريل من العام الماضي، دعا الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون إلى إيجاد الآليات القانونية الكفيلة بتأطير خريجي هذه المدارس العليا ومحاربة ظاهرة هجرة الأدمغة، مشدّدًا على إعادة الاعتبار للنخبة الوطنية بناء على دراسة واقعية وعميقة للاحتياجات الوطنية من الموارد البشرية، خاصة في قطاعات الصناعة والفلاحة، وكل القطاعات الأخرى الخلاّقة للثروة، عن طريق "خلق مدن علمية جديدة تتضمن مدارس وطنية عليا متخصصة في مختلف جهات الوطن" كما جاء في البيان.

كما شدّد الرئيس تبون على ضرورة الاستفادة من خبرات الكفاءات الجزائرية في الخارج، ودعوتها لتكون وقودًا للبحث والابتكار في الجزائر وتأطير الملايين من الطلبة.

في سياق متصل، لفت الأستاذ يوسف بورنان من جامعة مستغانم غرب الجزائر إلى ضرورة الاهتمام بالأدمغة الجزائرية التي تبدي استعدادها لتقديم يد المساعدة لبلدها الأصلي وإن كان عن بعد؛ فالمهم هو الاستفادة من خبرتهم في تكوين الطلبة وتأطيرهم في انجاز مشاريع هيكلية لفائدة البلاد.

ورغم ما أبدته الحكومة من تشجيع كل الكفاءات العلمية الجزائرية الموجودة في الخارج للعودة إلى أرض الوطن، إلا أن مشكلة البيئة العلمية التي لا تشجع على العمل والتفكير والإبداع، فهي بحسب حديثه تشبه جدران تغلق على العقل وتخنق الباحثين.

 يعيش الباحث في بيئة غير مشجّعة سواءً من الجانب العلمي والمهني والمادي ثم الاجتماعي.

كما لفت الأستاذ في تصريح لـ"الترا جزائر" إلى مشكلة التمييع الذي تعرفه من حيث المحتوى وطريقة العمل، وأثرت على الفاعلين للنشطاء في العلم، تجد نفسك في غربة في بيت الجامعة، فكرة المشروع يضعونك ضمن الصراعات يتفها، بيئة طاردة تتعب الفرد وتحدّ من طاقته الذّهنية والفكرية والنّفسية والجسدية، إذ يعيش الباحث في بيئة غير مشجّعة، سواء من الجانب العلمي والمهني والمادي ثم الاجتماعي.

خسارة

تأسيسًا على الواقع، فإن وزارة التعليم العالي لم تخف يومًا عن الثمن الذي دفعته الجزائر بسبب هجرة الأدمغة، إذ يشدد البعض من الكوادر الجزائرية على أن الجزائر خسرت أكثر من 30 ألف باحث تمكنوا من الحصول على منح من الوزارة في الفترة ما بين سنتي 1970 و2010، أي في ظرف أربعين سنة فقدت الجزائر 50 في المائة من العدد الإجمالي للباحثين والأساتذة الجامعيين والطلبة الذين استفادوا من منح التكوين بالخارج في هذه الفترة.

وكشفت الوزارة في بياناتها الرسمية أن هجرة الأدمغة والكفاءات الجزائرية نحو الخارج كلفت الجزائر 700 مليون دولار أمريكي، من تكاليف تكوين طلبة جامعيين وباحثين جزائريين تم إرسالهم إلى الخارج على مدى الأربعين سنة الماضية.

غير أن الرقم ارتفع في الفترة ما بعد ثورات الربيع العربي أي من 2010 إلى غاية 2020، خصوصًا إن سلمنا أن بوجود فائض كبير في عدد الإطارات الحاصلين على الشهادات العليا دون وظائف.

وتعتبر هجرة الأدمغة هي أهم أسباب التأخّر الكبير المسجل في مجال التقدم الاقتصادي والتكنولوجي في بلادنا، في حين يساهم العلماء الجزائريون في صنع ازدهار الدول الأجنبية.

احتضان الشّمعة

بين "نزيف الأدمغة" و"نزيف العقول" و"تبديد العقول شعرة واحدة فالمصطلح الأول يعني هجرة ذوي التعليم العالي- حسب الأستاذة في علم الاجتماع لوزيرة لبيب-  بينما الثاني فيعني هجرة الكوادر الماهِرة، بينما الثالث ففحواه أنه في حال ضيق السّوق الاقتصادية للدول النامية ولا تستطيع تشغيل الكوادر فالحلّ أمامهم هو الهجرة.

 البلاد فقدت كفاءات مؤهّلة عِلميًا وانتقلت من البيئة الجزائرية إلى بيئات أخرى تتوفر على شروط أفضل للبحث والعطاء العلمي 

وبصرف النّظر عن كل هذه المفاهيم والمعاني، وعن الأسباب التي دفعت كلّ شخص لحمل حقيبته وشهاداته، فإن المغزى الأكبر هو فقدان البلاد لكفاءات مؤهّلة عِلميًا ومن حيث المهارات ونقلها من البيئة الجزائرية إلى بيئات أخرى تتوفر على شروط أفضل للبحث والعطاء العلمي والابتكار والإبداع بغية تحقيق مستويات معيشية أحسن.

 

اقرأ/ي أيضًا:

فرنسا تستقطب الشباب الجزائريين في عيد الثورة

الجزائر بعد "قرارات الإلغاء".. ماذا حصل للجامعات؟!