31-ديسمبر-2021

من صحافيون أمام مقر التلفزيون الجزائري (تصوير: رياض قرامدي/أ.ف.ب)

 

في العام 2019 بدأت قصّة هذا المقال، تجاوزت لحظة العُثور على الفِكرة بنظرة أفقية لما يُدوّنه الزّملاء الصحفيون والأكاديميون من مجال الإعلام والاتصال في الجزائر، حيث لفتتني "خربشات" الأستاذ إبراهيم قارة علي كما يطلق عليها بنفسه، إذ اشتغلت تحت رئاسته في جريدة " الحقائق" اليومية، فترة عودة وزير الخارجية الأسبق؛ الراحل عبد العزيز بوتفليقة إلى الحكم، فترة جدّ عصيبة تزامنت مع ترشحه للرئاسة وانسحاب منافسيه ليلة الانتخابات في سنة 1999.

تشكّلت صورة ذهنية سلبية عن الصحفي "الفريلانس" عند البعض لأنه يشتغل مع عدة المؤسّسات وبلا مؤسسة واحدة تحميه ماديًا واجتماعيًا

أن تدلي بشهادتك في حقّ زميل يعتبرها البعض نوعًا من الانحياز لزميل المهنة، لا يمكن طعنه وراء الظهر، أو حتى قول كل شيء أمامه، قد نجرحه بكلمة دون أن ندري أو نعتدي على حقه خطأ باعتبار الأخير حق "إنساني –بشري"، كما قال الكاتب الصحفي عبد العزيز بوباكير رئيس تحرير "الخبر الأسبوعي" السابق زمن البحبوحة المالية وصراع الأجنحة بين الرئيس الراحل بوتفليقة ومنافسه رئيس الحكومة الأسبق علي بن فليس.

اقرأ/ي أيضًا: متابعات جديدة ضد الصحفي بن جامع

في المهنة تياران أحلاهما مرّ؛ تيار عاش فترة التسعينات وخرج منها سالمًا معافىً في الظاهر، لكن في قلبه العشرات من الخدوش التي لم تلتئم والندوب التي تركتها إما " توجس انتظار الموت، أو هلع سماع دوي انفجار سيارة مفخّخة، أو النهوض في الصباح على خبر اغتيال زميل، أو تغطية عمليات انتحارية أو عدد من المجازر التي عاشتها الجزائر في فترة العشرية السوداء، على غرار المصوّرين الذين كانوا يؤدّون مهنتهم كمصوريين وصحفيين أيضًا، ونسيناهم في غمرة تغوّل المهنة، هنا نتذكر على سبيل المثال الصحفي -المصور علال حاشي، لأنّه سبق له أن غطّى المجازر التي شهدتها عديد المناطق وكان عين رئيس تحرير، وكثيرًا ما يقع اختيار الصفحة الأولى من طرفه، تجربة صحيفة "الأصيل" أنموذجا في نهاية التسعينات بدار الصحافة أول ماي بالجزائر العاصمة.

أما التيار الثاني، فهو التيار الذي يسمع بأذن واحدة (أنا ونحن وأنتم)، من جِئنا في غمرة التغيّرات السياسية التي قذفت بها زمرة من منظومة الحكم السياسية التي قال فيها الرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة: "أنا رئيس تحرير وكالة الأنباء الجزائرية".

هذا التيار عانى الكثير من ضغوطات السلطة ومضايقاتها، هنا بالذات تحضرني مقولة شهيرة لأحد المسؤولين في الإعلام: "ماديروش اسم على ظهري" أي لا تصنعوا أسماءكم في مجال الإعلام على عاتقي، وهي عبارة قد تُفهم من عدة زوايا، -كلّ ينفِق ممّا عنده-، صحيح هناك مؤسّسات صنعت إعلاميين، وهناك إعلاميون صنعوا مؤسّسات، وهنا أعتقد شخصيًا أن هذا السؤال سيبقى قائمًا حول ما إذا كانت المؤسسات هي التي تضيف إلى الصحافيين أم العكس.

حاليًا، برزت مسارات كثيرة في الإعلام، تيّار ينادي بالنّجومية والظّهور، والبهرجة التصورية والمشهدية في تغليف المنتج الإعلامي، على حساب الكِتابة الصحافية، والتحرّي والعمل الميداني، وتيار يبحث عن تعلّم المهنة على أصولها، وتيّار لا يلتزم فقط بما تعلمه في الجامعات، بل خاض تجارب خاصّة في إنشاء مواقع إلكترونية كثيرًا ما تُعتبر منجزًا أفضل من لا شيء، ومسار آخر يؤمن بالحاضر وماذا سيستفيد من المهنة وليس ماذا سيقدمه في المهنة، خصوصًا إن سلمنا بوجود العشرات من الصحافيين قد أحيلوا على البطالة بعد حالة الإغلاق التي شهدتها عشرات الصحف الورقية والقنوات التلفزيونية الخاصة، في مقابل حالة التضييق التي تشهدها الساحة مع انتهاء الحراك الشعبي، أما التيار الذي يمكن أن يكون له باع طويل في الأخذ والردّ، هو التيار الذي لجأ الى وسائط التواصل الاجتماعي في علاقة بتفشي المعلومة المغلوطة والمعلومة الجاهزة،  في غياب حدود المهنة وأخلاقياتها.

في مجال الإعلام الجزائري لازال مسمّى الصحافي الحرّ –المستقلّ " الفريلانس" غريبًا بعض الشيء عن الواقع،  حيث مازال السؤال الذي يُطرح "أين تشتغِل؟ بدل سؤال "ماذا تشتغِل؟"، خصوصًا إن تعلّق بمنجز فكري يستحقّ جُهدًا مضنيًا، وليس وظيفة محكومة بعدد الساعات فقط التي يقضيها الصحافي في مبنى مؤسسته، إما أن تكون يومية وتفرض عليه بطاقة الدخول الإلكترونية لتسجل تفاصيل الدخول والخروج، أو تفرض عليه القدوم للمؤسسة لمرتين أو ثلاث مرات في الأسبوع وتقبض أجرة في نهاية الشهر.

الملفت للنّظر، وفي غمرة التحوّلات السياسية الجارية، من الصّعب أن تجد جوابًا شافيًا ومتكاملًا لسؤال مفتوح، فمن خلال مجموعة أسئلة استبيان أكاديمي على عدد من الصحافيين من جيل الثمانينات والتّسعينات وخاصّة منهم الصحفيون بنظام القطعة، طُرح سؤال: "ماهي محصّلة المهنة لديكم؟"، وكانت الأجوبة التي جمعتها كالآتي:

-أن تملِك سيرة مهنية مميّزة، من شهادات عليا وتجربة سنوات وخبرة بين القطاعين العمومي والخاص لا يعني أنك صحفي.

-السيرة الذاتية، والخبرات والتجارب لثلاثة عقود، قد تسقط في الماء بمجرد أن تمرض شهرًا واحدًا.

-الشّهادات العليا: (ليسانس ماجستير، دكتوراه) بالإضافة إلى المهنة الميدانية: تسقُط في الماء بمجرد أن تقدم طلب وظيفة في مؤسّسة إعلامية، إذ لا يتمّ إيلاء الأهمية بما تملِكه من خبرات وشهادات بل تتدخّل عدة عوامل في التوظيف، من وراء خلفية اجتماعية وسياسية لطالب الوظيفة، قد تحتاج في العديد من المناسبات إلى الوساطة وربما الوساطة فقط.

-الصحفي الحرّ أو المستقلّ أو "الفريلانس" يشكّل صورة ذهنية سلبية عند البعض لأنه يشتغل مع عديد المؤسّسات، وبلا مؤسسة واحدة تحميه ماديًا واجتماعيًا، وكأنه بلا مأوى؛ يشرح بعض المستجوبين:" عليك أن تُظهِر الأجود ممّا عندك من مادة صحفية، وبإتقانها أيضًا، أن تتنقل بوسائلك الخاصة، وأن تكون دومًا متيقِّظًا وبصحة جيّدة، وتملك قدرة على الإنجاز اليومي ومستعدّ كجندي في حالات الطوارئ، لتضمن مبلغًا ماليًا جيّدًا مقابل عن تلك الخدمة".

المفاجأة التي فتحت الباب أمام أسئلة أخرى وبقيت دون أجوبة هي حقيقة سردها البعض ملخّصها أنهم يشتغِلون بلا أجر

لكن المفاجأة التي فتحت الباب أمام أسئلة أخرى وبقيت دون أجوبة؛ هي حقيقة سردها البعض، ملخّصها أنهم يشتغِلون بلا أجر، حتى يحافظون على لِياقة كتاباتهم، فالصحافي المغرم بالكتابة تجده مولعًا بها حتى دون مقابل.. هذه حقيقة لزملاء المهنة، فالكتابة عنهم جزءٌ من اعتراف لمهنة فقدت الكثير من قوتها في عهد الفضاء الافتراضي الذي أصبح سلطة خامِسة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

الصحفي بن جامع مهدد بالسجن بعد التماس النيابة

اعتقالات الصحافيين.. "جريمة الصحافة" في الجزائر