وضع العالم بعد فيروس كورونا لن يكون كقبله، بعد هذا الوباء سيكون "هناك ما قبل وهناك ما بعد"؛ كلّ شيء سيتغير بعد فيروس كورونا: النظام العالمي، الاقتصاد الدولي، النظام الديمقراطي الليبرالي. هذا الفيروس سيخلق "نموذجًا عالميًا جديدًا"، أو بالأحرى "عالما جديدا"، سنشهد معه تحولات اقتصادية واجتماعية وثقافية عميقة.
أمام هذا المشهد التراجيدي يرى البعض أنه لا عزاء ولا خلاص لنا سوى الفن
هذا الوباء كشف أن "البشرية كانت تسير على رأسها"، فيروس كورونا "سيخلق أكبر أزمة إنسانية وأخلاقية"، إنه "تهديد صارخ للمعنى"، وأمام هذا المشهد التراجيدي يرى البعض أنه لا عزاء ولا خلاص لنا سوى الفنّ.
اقرأ/ي أيضًا: حوار | إبراهيم بن عرفة: البوقالات في رمضان لعبة النساء في غياب السلطة الذكورية
لقد تعدّدت الأحكام المتعلقة بفيروس كورنا وتأثيراته، ولكن كلها تصب في رؤية واحدة، فهي تصور لنا مشهدًا "أبوكاليبسيا" كارثيًا للعالم ينذر "بنهاية عالم" وبداية عالم جديد.
أحكام تستمدّ مشروعيتها من الروح الماركسية التي تترصد كل حدث، كل صراع، حتى تنسلّ وتتسرب أفكار حول إمكانيات "تغيير العالم"، كما أنها تستند أيضًا إلى التحليلات الهيدجرية التي تسائل التقنية والحداثة.
الحل؟ أحكام ومواعظ أخلاقية: الوباء كشف حقيقة الإنسان، عن بشاعة القوى العظمى وتسلطها، على الإنسان أن يهم أكثر بالصحّة، بالبيئة، بالحيوان، يجب استرجاع إنسانية الإنسان، أحكام كلها تصب في أخلقة العلم، أخلقة الاقتصاد، أخلقة السياسة، أحكام تستمد مشروعيتها من النزعة الأخلاقية الدينية، أدعياء الإنسانية! لا فرق بينهم وبين رجال الدين سوى أن هذه الفئة الأخيرة تتكلم باسم الله، أما رجال الدين العلمانيون فيتكلمون باسم الإنسانية.
في الظاهر مختلفان ومتناقضان ولكن في الواقع يتقاسمان الدور نفسه: إغراق العالم بالخطابات الأخلاقية. ولكن إلى أيّ مدى تملك الخطابات الأخلاقية سلطة التغيير، وإعادة توجيه مسارات الإنسانية؟
في نظر المدافعين عن أطروحة: "وضع العالم ما بعد فيروس كورونا، لن يكون كسابقه"، أن هذا الـ "ما بعد" ليس فقط مجرد انتقال زمني من مرحلة إلى أخرى، وإنما هو أيضًا تحوّل في منظومة التسيير، في نمط الاجتماع، في العلاقات بين الدول.
"ما بعد" يعني أيضًا، الانتقال إلى نظام عالمي جديد يقطع الصلة مع النظام الحالي، ورؤية جديدة تجاه الحيوانّ، تجاه الطبيعة، تشكل علاقات وتكتلات دولية جديدة وفق موازين قوى جديدة.
لو تمعننا قليلًا في الخطابات التي تروّج لتعبير "ما بعد" كورونا نجد أنها تستمد أفكارها من "ما بعد الحداثة"، أو لنقل إنها امتداد لها.
هذه الخطابات البعدية تتربّص بكل حدث-مصيبة تلم بالإنسانية حتى تستثمر في الوضع لتنتصر لنظرياتها الابوكاليبسية. في مثل هذه المراحل تثور هذه الخطابات على مرتكزات الحداثة: العلم التقني، اقتصاد السوق، الديمقراطية الليبرالية، الفردانية.
هذه الخطابات والتحليلات هي صحيحة جزئيًا ولكن كثيرًا ما تبقى حبيسة التحليلات النظرية، ومزايدات اللغة، ولا تنظر إلى الواقع وما يكشف عنه.
في هذا المقال، سأحاول أن أبين أنّ "ما بعد" كورونا لن يكون سوى مجرد انتقال زمني بتحولات سطحية، لن تمس البنيات العميقة للنظام العالمي الحالي، ولن نشهد تحوّلات اجتماعية وثقافية وسياسية عميقة.
في الواقع، العالم مابعد فيروس كورونا لن يكون مختلفًا في العمق عن عالم ما قبل، ففي المجال الاجتماعي، أكيد أن الوباء فرض نمطًا اجتماعيًا جديدًا، جعل الأفراد يُكَيفون سلوكاتهم وفق قواعد السلامة الصحيّة: التزام البيوت بأكبر قدر ممكن، وعدم الخروج إلا في حالات الضرورة، تغير في آليات الاحتفاء والتواصل الجسدي مع الآخرين: تجنب التقبيل والملامسة، الحفاظ على مسافة بين الأشخاص، منع التجمعات، غلق المدارس والجامعات، غلق الملاعب والمساجد.
في المجال السياسي، ربّما كشف الوباء عن أنانية بعض الدول، وتخلّيها عن بعضها البعض
الشعار الأكثر تعبيرًا عن هذا التحول هو: "ابق في بيتك"، "restez chez vous"، "Stay at home" أكيد أن هذه السلوكات تعبّر عن تحوّل عميق في نمط الاجتماع البشري، وأن لها تأثيرًا كبيرَا على نفسية الأشخاص وعلى جانبهم العاطفي: أب لا يستطيع عناق ابنه أو أمه، تباعد بين الأصدقاء والأحباب، عدم حضور الجنائز لتوديع الأقارب والأصدقاء، كلّ هذا له تأثيره على نفسية الأفراد. لكن هل هذا يؤسّس لتحوّل راديكالي في نمط الاجتماع البشري؟ هل يمكن الحديث عن نمط اجتماعي جديد في مرحلة ما بعد كورونا؟ هل هناك ما قبل وما بعد كورونا، فيما يخصّ نمط الاجتماع البشري؟
أبدًا، النموذج الاجتماعي الحالي هو حالة استثنائية وليس دائمة، هي حالة عرضية وليست ثابتة، ستزول بزوال الوباء. في النمط الاجتماعي الحالي للعالم: ما بعد كورونا هو نفسه ما قبل كورنا، إذا أردنا أن نكون دقيقين أكثر؛ فإن المختلف عن "ما قبل" لن يكون"ما بعد"، وإنما في الحقيقة هو النمط الاجتماعي الذي تأسّس مع لحظة الوباء نفسها وامتدادها الزمني.
ما هو متخلف هو: راهن الكورونا نفسه وليس ما بعده. إذا أردنا أن نتكلّم عن الشيء الجديد والراديكالي في ظلّ هذا الوباء، هو النمط الاجتماعي الحالي الذي خلقته أزمة كورونا، ولكن هو نمط اجتماعي سيزول بعد زوال الوباء ويعود النمط الاجتماعي إلى طبيعته.
ما يستمرّ بعد هذا الوباء، هي فقط الآثار النفسية التي تلاحق الإنسان في مثل هكذا حالات والتي يمرّ بها الأشخاص الذين تضرّروا منه. مابعد كورونا لن يكون هناك نموذج اجتماعي جديد وإنما عودة إلى النمط الاجتماعي العادي.
وبالمقابل، ستكون هذه الأزمة مهمّة للعلوم الإنسانية والاجتماعية لرصد هذه التحولات، ورصد سلوكات الأفراد في مثل هكذا أوضاع استثنائية، لأنها تساعدنا مستقبلًا على فهم سلوكاتنا وردود أفعالنا. ربما تكون موضوعًا للروايات الأدبية والأعمال الفنية التي ترصد أغوار الذات الإنسانية، وتكشف عن مشاعرها وآلامها ومآسيها وعواطفها التي لا يمكن بلوغها لولا هذه الأزمات الإنسانية.
ولكن من الناحية الفلسفية التي تنظر من على سفح الجبل والتي تبني مواقفها من تراكمات معرفية ومن امتداد تاريخي طويل، فإن الحديث عن "مابعد" بمعناه الفلسفي يبقى مجرّد تكهنات.
في المجال السياسي، ربّما كشف الوباء عن أنانية بعض الدول، وتخلّيها عن بعضها البعض، إلا أن ذلك لا يكشف أبدا عن انهيار النظام العالمي ولا عن تفكك الاتحادات، ولا عن قطع العلاقات.
فمثلًا الصراعات والتصدعات بين دول الاتحاد الأوروبي، ليس سببها وباء كورونا بل هي قديمة قدم الاتحادات نفسها وتعود إلى أسباب موضوعية من بينها عدم التكافؤ الاقتصادي بين الدول الأعضاء.
ربما الوباء هو اختبار على مدى تلاحم الدول والتكتلات فيما بينهما، ولكن ليس هو الذي يفكك النظام العالمي ويقضي على العلاقات الدولية. ربما العكس تمامًا هو ما سيحدث، بحيث يكون أمام فرصة لمراجعة الحسابات وتدارك الأخطاء.
أكيد أن الانعكاسات الاقتصادية للوباء ستفرض علاقات جديدة بين الدول، ولكن أبدًا لن يهدد النظام العالمي الحالي ولن يغير من موازين القوى فيه. لأنّ هذا الوباء لم يمسّ قارة دون أخرى أو حاصر دولًا بعينها، وإنما انتشر تقريبًا في كل دول العالم، وكل هذه الدول شهدت تباطؤًا في اقتصاداتها. صحيح أن التأثيرات ليست نفسها إلا أنّ التقسيم الديمقراطي للأزمة سيجعل كل الدول على خطوط متقاربة.
في المجال السياسي، ربّما كشف الوباء عن أنانية بعض الدول، وتخلّيها عن بعضها البعض
إن الشيء الذي تغير هو ما يجري اليوم من توقّف في الرحلات بين الدول وإلغاء الزيارات. إذا أردنا أن نتكلّم عن "النظام العالمي الجديد"، فهو هذا النظام العالمي الذي خلقه الوباء، هو ما نشاهده الآن واللحظة؛ لحظة الوباء وامتداده الزمني: تراجع المبادلات التجارية بين الدول، انهيار تاريخي لأسعار البترول، توقّف المصانع عن الإنتاج، صفر مداخيل في السياحة، ارتفاع البطالة إلى أعلى مستوياتها، التحوّل من اقتصاد الوفرة إلى اقتصاد الندرة، من المجتمع المفرط في الاستهلاك إلى مجتمع الاستهلاك الضروري، من الاقتصاد العالمي إلى الاقتصاد المحلي، أصلًا لم يبق من النظام العالمي إلا بقاياه. عالم تقليدي- حديث بدأ يتشكل مع هذا الوباء، ولكن هل سيمتد هذا الوضع إلى مابعد كورونا؟ إن التحولات الراديكالية والجذرية للنظام الاقتصادي العالمي تحدث الآن واللحظة (لحظة الوباء)، وسيزول هذا النظام الجديد- التقليدي مع زوال الوباء.
مازالت الدول الليبرالية تتعامل بالآليات نفسها التي تتعامل بها مع مواطنيها في مرحلة الوباء؛ أكيد أن هناك رقابة على المواطنين وعلى تنقلاتهم، ولكن في آليات فرض احترام قواعد الحجر لا تختلف كثيرًا عن آليات احترام القوانين في الحياة العادية، والمتمثلة أساسًا في فرض الغرامات المالية. أما الأنظمة الديكتاتورية فمازالت تفرض الحجر بلغة السوّاط.
الوباء جعل بعض الدول وأجهزتها الرقابية، تهمين على المواطنين وتضيق على حرّياتهم الشخصية، ولكن هي رقابة تمسّ بشكل حصري تنقلات الأفراد. هذه الرقابة أسّست لنوع من"الدكتاتورية" في الدول ذات الأنظمة الديمقراطية اللبرالية، وهذا هو الوضع الجديد الذي فرضه فيروس كورنا، هذه هي القطيعة التي أحداثها الوباء مع ما قبل الوباء.
ولكن هل يمكن الحديث عن أنظمة سياسية جديدة في مرحلة مابعد الوباء؟ كلا، فرغم خطورة الوضع على صحّة المواطنين مازال بعض الأفراد في كل البلدان يخترقون قواعد الحجر ويعلنون تمرّدهم على الأنظمة، فأما بالنسبة للدول الليبرالية عصيان مواطنيها هو امتدادٌ للحرية الليبرالية التي نشأوا عليها، وليس من السهل التّخلي عن حرّياتهم.
وفي الدول الدكتاتورية، فرض الحجر متوقف على مدى قوة ضربات السوّاط. في بعض البلدان الدكتاتورية، لا يعود انتهاك مواطنيها لقواعد الحجر ومواصلة التجمّعات إلى نقص الوعي وعدم المسؤولية واللامبالاة وإلا كيف نفسر خروج المواطنين في الدول المتحضرة والمتقدمة، واستمراريتها في الخروج لأمور تافهة؟ لهذا يبدو لنا أن انتهاك الحجر في بعض الدول الدكتاتورية، هو امتداد لثقافة التعدي على المصلحة والممتلكات العامة. الصحّة في ظلّ هذا الوباء هي ملكية عمومية، واختراق تعليمات المنظمات الصحية، لقواعد السلامة الصحية، هو امتداد لانتهاك الأملاك العمومية في الأيام العادية.
إن العالم في لحظة الوباء يشهد تحوّلات جذرية على جميع الأصعدة، إلى الحد الذي يمكن القول أن هناك عالمًا جديدًا نعيشه اللحظة والآن
كيف نعالج هذا الوضع؟ الخطابات الأخلاقية، أحكام قيمية لا غير: شعب غير واع، غير مسؤول، على الدولة أن تفرض الحجر بالقوة، بالدبابة. ذلك حال فكرنا الذي لا يستطيع التفكير في إيجاد الحلول خارج معطيات الدكتاتورية، ولا يستطيع التفكير خارج الأحكام والتربية الأخلاقية. إذا أردنا احترام قواعد الحجر، علينا أولا أن نعيد احترام الملكية العامة.
هل يكشف الوباء عن أزمة أخلاقية عالمية؟ هناك من يعتبر أن العالم يشهد أزمة أخلاقية تكشف عن ضياع القيم الإنسانية. وكما يوجد تسابق وتنافس بين الدول، يوجد كذلك تضامن فيما بينها.
بعض الدول تقدمّ إعانات مالية للأسرة المتضرّرة من الوباء، لا يمكن الحديث عن بشاعة النظام الاقتصادي وعن الرأسمالية المتوحشّة في الوقت الذي تسعى الدول إلى فرض التوازنات، من خلال تخصيص إعانات مالية لمواطنيها، للخروج من هذه الأزمة، على الرغم من أن هذه الإعانات تقع على عاتق الدولة، إلا أن الوضع بين أيضًا أن كرامة المواطنين لا يمكن التفريط فيها.
إن التفكير في إنقاذ الاقتصاد دون التفريط في حياة وكرامة المواطنين، يكشف أن الدول التي تؤمن بالاقتصاد الحرّ والليبرالي اهتمت كذلك بالرعاية الاجتماعية. إن التفكير في إنقاذ الاقتصاد دون التفريط في حياة المواطنين، يبين أن الإنسانية لم تفقد بوصلتها الأخلاقية. هناك تضامن كبير من قبل الجمعيات الخيرية لمساعدة المواطنين المتضرّرين، وحتى اللاجئين. نحن لا نشهد انهيارًا أخلاقيًا بالصورة الآبوكاليبسية التي يروج لها البعض، أو ربما نحن "لسنا أفضل أو أسوء حالًا من الماضي".
إن العالم في لحظة الوباء يشهد تحوّلات جذرية على جميع الأصعدة، إلى الحد الذي يمكن القول أن هناك عالمًا جديدًا نعيشه اللحظة والآن، عالم يجمع بين صور الاجتماع التقليدي والحديث، بين الدكتاتورية والليبرالية، بين اقتصاد الوفرة واقتصاد الندرة، بين حالة الحرب وحالة السلم: عالم في حالة "حرب" ولكن "حرب" دون عنف، دون دمار، دون خراب للمنشئات الصناعية والمباني العمرانية، ولكنه بالمقابل عرقل عجلة الحياة والاقتصاد، ونشر الخوف، وضع جديد فرض التباعد بين الناس وألغى تنقلاتهم، ولكنه بالمقابل قرب بينهم وألزمهم بيوتهم وأحيائهم، الجميع في منازلهم ولكن الجميع متواصل مع العالم ومع الآخرين بفضل التكنولوجيا.
لا الفن ولا الفلسفة ولا الدين، ما يقدم الأمل للإنسان مثل ما يقدمه العلم. في مثل هذا الوضع هل يمكن أن نتصور مدى تأثير ذلك على حياتنا، ونمط عيشها دون إنترنت؟
لا الفن ولا الفلسفة ولا الدين، ما يقدم الأمل للإنسان مثل ما يقدمه العلم
أكيد سيشهد العالم بعد هذا الوباء، تداعيات اقتصادية كبيرة إلا أن ذلك لن يؤدي إلى تفكّك النظام العالمي وانهيار النظام الرأسمالي، وتراجع القيم الليبرالية والديمقراطية، وعودة الاشتراكية والأنظمة الشمولية، وانهيار الدول الغربية، لأن آليات التعامل مع الوباء وطريقة تسيير الأزمة التي أنتجها والحلول المقدمة لها لا تخرج عن منطق اشتغال النظام العالمي الحالي، ولا تخرج عن آليات التفكير التي تستند إلى الحداثة، لأنّه لا توجد ثورة على الحداثة بل تكريس لمبادئها.
اقرأ/ي أيضًا:
القهوة والحجر الصحّي.. الجزائريون يكتشفون "المعشوقة السوداء" في بيوتهم
جنود الظلّ" في المستشفيات.. مواجهة كورونا من المسافة صفر"