06-أبريل-2019

جزائريون في العاصمة، 2 نيسان/أبريل، احتفالًا بتنحي بوتفليقة (Getty)

عاش الجزائريون غرباء عن مفهوم الدّولة منذ الوجود العثماني في الجزائر، وكان تنظيمهم ذاتيًا خارج المدن الرئيسة، ولم يكونوا بصدد هذه الدولة إلّا عندما يبعث الدّاي رأس كلّ سنة موفديه لجني الزكاة التي لا يقدّم لقاءها إيّ خدمة لهم، وعندما جاء الاستعمار عوّض هذا الظلم الذي لا يراه الجزائريون إلاّ مرّة في السنة، إلى عنف واستبداد وحضور يومي لرموز الادارة والجيش الفرنسي.

عاش الجزائريون غرباء عن مفهوم الدّولة منذ الوجود العثماني في الجزائر، وكان تنظيمهم ذاتيًا خارج المدن الرئيسة

لهذا ولغيره سقط من تصوّر الجزائريين امتلاكهم للفضاء العمومي، فالشارع والساحات العامّة المهجورة والبائسة أحيانًا هي ملك لهم، هم، أمّا نحن المواطنون فلا نمتلك غير بيوتنا.

اقرأ/ي أيضًا: عبد العزيز بوتفليقة.. ختام "قسري" لسيرة رمادية

تواصلت المظاهرات في مختلف المدن الجزائرية للجمعة السادسة على التوالي، بنفس المطالب ونفس التصميم على إنهاء حكم النظام السياسي الحالي، من اليسير أن نلاحظ كيف تطورت هذه المسيرات كمًّا ونوعًا خاصّة في مدينة الجزائر، هناك الكثير مما يمكننا ملاحظته، لكن أريد أن أتناول جانبًا من هذه المسيرات، وهي أنّها في أوّل جمعتين كانت تسير في اتّجاه واحد وإلى مقصد واحد، وهو غالبًا البريد المركزي ثمّ  ساحة موريس أودان، صعودًا إلى قصر الشعب عبر شارع محمد الخامس، وقد لقيَ المحتجون، الذين وصلوا إلى قصر الشعب، حوادث تدافع واصطدام مع بعض عناصر الأمن وتدخلًا لبعض عناصر الاجرام والشغب أودت بحياة أوّل شهيد وهو حسن بن خدّة، لا شكّ أنّ صدى موت هذا الرّجل قد سبّب حرجًا كبيرًا للسلطة في بداية معركتها، فمن ضمن آلاف المتظاهرين لم يستشهد غير ابن آخر رئيس لحكومة شرعية ومدنيّة للجزائر بعد استقلالها.

لكنّي تفاجأت في الجمعة الرّابعة أنّ أمواج المحتجّين كانت متداخلة، وأنّ الشوارع كانت أحيانًا تنقسم إلى أمواج من البشر تمشي في اتجاهين متعاكسين، لم يكن يبدو أنهم يقصدون مكانًا معينًا، حتّى انّي شاهدتُ أبًا يجلس في سكينة تحت ظلّ شجرة ويقلّم أظافر ابنه الذي لم يتجاوز ربّما الخمس سنوات، في الحقيقة لقد خرج هذا الرّجل ليقلّم أيضًا أظافر السلطة التي منعته، من بين ما منعته، الساحات العمومية.

أثناء احتجاجات كانون الثاني/يناير 2011 التي انفجرت في معظم المدن الجزائرية، ضدّ غلاء أسعار السلع واسعة الاستهلاك، لجأت السلطة، تحت تهديد مدّ الثورة ذات المطالب السياسية في تونس، إلى حلول سريعة وفعّالة، فقد تقرّر صرف مليارات الدولارات كمنح ودعم لأسعار هذه السلع وتقديم قروض سهلة وبدون ضمانات كافية للشباب، ومن جهة أخرى جُرّد أفراد الشرطة من أسلحتهم، وقد أصيب من أفرادها في الأسبوع الأوّل من الاحتجاجات أكثر من ثلاثمائة شرطي، وهذا ما كانت تبحث عنه السلطة، الأرقام التي تخدم صورتها وسياستها واستمراريتها، وقد عمدت أيضًا إلى إغلاق الساحات العمومية في الكثير من المدن، بدعوى أعمال صيانة أو حفر أو حتّى إقامة معارض للحلي والمنتوجات التقليدية كما حصل في وسط العاصمة، وقد كان هذا فصلًا من فصول الصراع بين المواطنين والسلطة الجزائرية حول الفضاء العمومي، حاول الشعب هذه المرّة أن يجعله فضاء للاحتجاج وللتعبير عن مطالبه الاجتماعية والمعيشيّة، وفي المقابل حاولت السلطة جاهدة أن تجعل الفضاء العمومي، فضاء لعبور المواطنين فقط، فضاء لها وحدها.

في كانون الثاني/يناير 2016، اعتقلت الشرطة شابًا في الجزائر العاصمة بتهمة العزف والغناء دون ترخيص في أحد الشوارع الرئيسية، وقد تضامن معه شباب كثر بأنْ نزلوا بآلاتهم للغناء والعزف في ذات المكان، أُطلق صراح الشاب سريعًا ومُنحَ بعد أيام تصريحًا بالغناء والعزف وسط العاصمة، كما سُمح لغيره من الهواة بذلك.

هذه المرّة أعاد الشعب امتلاك جزء من حقّه في الفضاء العمومي، وهو الحقّ في الغناء.

أمّا في أحد أيام شهر رمضان الماضي، فقد خرجت شابّة قبل الفطور للركض، فتعرّضت للضرب والإهانة من طرف شاب أمرها بالرجوع إلى مكانها الطبيعي وهو المطبخ، اتجهت الشابة إلى قسم الدرك الوطني الذي رفض، حسب أقوالها، فتح محضر وتساءل من كانت بصدد الحديث إليه : "وأنتِ من دفعك إلى الركض؟"، لقد كان الدّافع بكلّ بساطة ممارسة الحق في الرّكض في فضاء عمومي ملك للجميع، أمّا السلطة وذلك الشاب الذي لا يعرف مثالًا آخر عن الفضاء العمومي غير المثال الذي قدّمته له السلطة، فيعتقدان أنّه ملك لله أو للدوّلة ولا يمكن أن يكون ملكًا لبشر.

في الجمعات الأولى من الحراك، تخوّف التُجّار وأصحاب المحلات والمطاعم في الجزائر العاصمة من فتح محلاّتهم، لم يكن بإمكانك أن تشتري قارورة ماء في وسط العاصمة، وفي خلال جمعتين أخريين أصبح الرصيف يعجّ ببائعي قارورات الماء والرايات الوطنيّة، فتح الكثيرون محلاّتهم، وتبرّع عدد من سكّان أحياء وسط العاصمة لتنظيم حركة المرور ولتوزيع الماء والحلوى على المارّين، وكان المسعفون والأطباء المتطوّعون قد بدؤوا بتقديم المساعدة، وتشكّلت مجموعات لتنظيف الشوارع بعد انتهاء المسيرات.

غزتْ كلّ أطياف المجتمع الجزائري الفضاء العمومي، وجعلوه فضاء للنقاش والتعبير الحرّ والتغيير

خرجت النساء بأعداد كبيرة ابتداء من جمعة الثامن من آذار/مارس، هكذا غزتْ كلّ أطياف المجتمع الفضاء العمومي وأعادوا امتلاكه، ولم يعد هذا الفضاء للركض، للمشي أو للغناء فقط، بل أصبحَ فضاء للنقاش وللتعبير الحرّ وللتغيير السياسي، فهل سيدوم هذا المكسب للجزائريين؟

اقرأ/ي أيضًا: هل سيستولي قايد صالح على ثمرة الحراك الشعبي الجزائري؟

حصل الجزائريون على الكثير من المكاسب منذ استقلالهم سنة 1962، ولكن كان في كلّ مرّة يُهضم حقّهم الذي انتزعوه، وكانوا يفرضون التغيير دائما بثورات عنيفة بعد سنوات طويلة ممّا يبدو أنّه استكانة وتسليم، أمّا الآن وقد تابع العالم كلّه سلميّة المواطنين، فهل سيقدّم، على غير عادتهم كما ردّد المؤرّخ محمد حربي، قادة الجيش والزمرة الحاكمة وأجهزة الأمن هدايا لهذا الشعب؟ وهل سينتهي الصراع على الفضاء العمومي؟

اقرأ/ي أيضًا:

من مختصرات التاريخ الجزائري

خطاب قايد صالح يفتتح مرحلة جديدة أمام الحراك الجزائري