21-سبتمبر-2021

(تصوير: رياض قرامدي/ أ.ف.ب)

أشاحت وسائل الإعلام المحلية والقنوات التلفزيونية الحكومية والمستقلة، بصفحاتها وشاشاتها عن خبر وفاة الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة، ولم يكن حدث رحيله وتشييع جثمانه أكثر من خَبر وتَقرير، على الرغم من أن نفس وسائل الاعلام هذه كانت قبل عامين تقود دعاية سياسية للرئيس، وتوجّه وسائلها لصالح ترشّحه لولاية رئاسية خامسة.

في علاقة مع حدث الوفاة تُوضّح هذه التجربة الأخيرة خضوع مهنة الإعلام للتغييرات السياسية والتحولات التي تصاحبها

اللاّفت للانتباه أن مختلف أوعية الإعلام الجزائري، حاولت التّعامل مع خبر وفاة الرئيس الراحل من بوابة "خبر صحفي"، واكتفت بعدم الدّخول في المشهدية السياسية، بل وأحجمت أن تجعل من حدث الوفاة فرصة نقاش في منصّاتها الخاصة بالبرامج والنشرات الإخبارية عن مسيرة الرجل السياسية، خاصّة أنه حَكَم الجزائر لمدّة 20 سنة، متجاهلة فترة الحكم وفترة ما قبل الحكم حتى فللرجل تاريخ سياسي من بوابة الدبلوماسية في فترة حكم الرئيس الراحل هواري بومدين.

اقرأ/ي أيضًا: بوتفليقة.. نِهاية صامتة لمسيرة رجل حكم عقدين من الزمن

 

كملاحظة أولية للتّغطية الإعلامية الجزائرية لوفاة سابع رئيس للجزائر المستقلّة، لم تكن بمستوى القدر الذي تعاملت به في وقت سابق، مع عديد الشخصيات من مختلف المجالات ومن الداخل والخارج، ذلك ما جعل من مستوى التعاطي الإعلامي مع الحدث يطرح التوقف والتساؤل: هل التحوّلات التي تشهدها الجزائر مؤثِّرة في العمل الصحافي أم  أن الصحافة لم تتمكن من الإفلات من التأطير السياسي؟

أسئلة تطرح بإلحاح مع كلّ الأحداث الكبرى، التي تحتاج القراءة، إذ لم تكن التغطية الصحفية مناسبة، سواءً بالنسبة للقنوات الحكومية بتقارير إخبارية دون ان تتوسّع مع الحدث بما يستحق" أو الخاصة التي أخذت نفس المسار الذي اتخذته وسائل إعلام القطاع العمومي.

المتتبّع لليومين الأخيرين من لحظات إعلان وفاة الرئيس بوتفليقة، أنّ الإعلام الجزائري تحفّظ على الخوض في تاريخ الرّجل السياسي، إذ قرأه البعض على أنه تحفظ من فتح " جراج الجزائريين، خصوصًا وأنه أزيح من كرسي الرئاسة بثورة شعبية، على خلفية حراك شعبي طال مختلف الولايات الجزائرية"، فيما قرأه البعض أنه محاولة "لطمس صفحة الرجل السياسي والإبقاء على صفة " المجاهد"، لـ "أوامر فوقية بعدم التعريج على الحدث بأكثر من تعاطي اعلامي، دون معالجة معمّقة لفصل من فصول التاريخ الجزائري". بين الرأيين هناك رأي ثالث، يرى أن الإعلام تقهقر منذ بدء تقليم أظافر العشرات من الاعلاميين ووسائل الإعلام التي تخالف رأي السلطة.

التّوجيه الأحادي النّظرة

يعتقد أستاذ الإعلام حسين فلاحي أن الحدث كان مهمّا كمادة إعلامية صرفة، إنّ "رأينا أنه مادة دسمة لفتح نقاش كبير حول مسيرة الرئيس الراحل" موضحًا أنه من المفروض أن "يتعرّف الجزائريون كجمهور على مسيرته وأهمّ محطاته التاريخية، فلكل رئيس نجاحات وإخفاقات" كما قال .

وفي ذلك الصدد، قرأ الأستاذ فلاحي ما تمّ بثّه ونشره خلال يومين من الزمن، يمكن وصفه بـ"التغاضي عن الحدثّ أو ّالتغافل عن تفاصيل مثيرة في حِقبة تاريخية كخلفية سياسية لبوتفليقة".

ولا يمكِن تجاوز هذه الحقيقة، حسب هذا الرأي، إذ بات موقف الإعلام كان كثيرا ما "ينسجم مع رؤية السلطة والحكومة التي تعاطت مع الحدث بسطحية لافتة، في محاولة منها لأن لا تعيد تقليب الصخب الثوري، و" دون أن تستفزّ الملايين الذين خرجوا للشوارع رفضا لمواصلة الراحل للحكم".

بغضّ النظر عن كل الانتقادات التي وجهت للرئيس السابق بوتفليقة، وبعيدًا عن الحكم على فترة تاريخية، ومرحلة حكم رئيس، وبعيدا أيضا عن مواطن فشله في العديد من  القطاعات، إلا أن "الإعلام الجزائري فوت الفرصة على المواجهة، والمحاسبة التقييمية"، إذ أكد الأستاذ فلاحي لـ" الترا جزائر" أن التقييم يقدر عبر المنجزات وعبر المآلات، وهنا يمكن أن نستغل الفرصة لإبانة الأخطاء وتوضيح عمق الازمة الاقتصادية والاجتماعية التي تعيشها الجزائر".

كملاحظة ثانية، فإن الإعلام الجزائري بات ذو اتجاه واحد، في حدَث ليس بالعابر، حتى وإنّ افترض البعض من خبراء السّلطة الرابعة من إعلاميين ممارسين أو أساتذة جامعيين، أن الأكر كان مقصودا، فإن أي حدث يحمل فرصة الرأي والرأي الآخر، بينما في حالة "بوتفليقة" اتضح أنّ الإعلام كان موجّها أو يظهر أنه تمّ توجيه دفته نحو " تجاهل الحدث" أو" تعويمه في كونه وفاة لمجاهد، وجب تشييعه كما تستحق نضالاته، والتجاوز عن حقبة حكمه التي استمرت لعقدين من الزّمن.

ويمكن تفسير ذلك على مستويين كما ذكر الباحث في الخطاب الإعلامي وليد لعضايمية، في تصريح لـ "الترا جزائر" أنّ هناك "ضغط سياسي وتوجيه في كيفية التعامل مع الحدث" على المستوى الأول، أما المستوى الثاني فهو مهني بحت يتعلّق بأن هناك عدم تركيز في غرف التحرير والأخبار، و"عدم استيعاب لطبيعة اللحظة التاريخية في التّعامل مع شخصية سياسية بحجم الرئيس الراحل بوتفليقة".

واقترحت بعض الحساسيات الإعلامية في الجزائر، من أساتذة وخبراء أن اللحظة التاريخية لا تمنع عن الإعلام أن يستثمرها جيدًا، دون أن يغفل حجم المعلومات التي يمكن استقاءها من تصريحات واستعراض الرصيد السياسي للرئيس السابق بوتفليقة، وبخبراء يناقشون نجاحاته واخفاقاته خلال مسيرة حكمه، وإسهاماته الدبلوماسية في تاريخ الجزائر، واخفاقاته كرئيس من الناحية الاقتصادية والاجتماعية والظروف التي أجبرت الشعب الجزائري للخروج ضده بعد أن طفح الكيل.

ويعتقد الباحث في العلوم السياسية، عبد  المجيد  بوغابة، أننا لا يمكن أن نكون "متناقضين مع مسار البلاد السياسي والتاريخي، وعدم الخوف من تعرية النقائص التي تبني وليس التي تهدم"، معتبرًا أن "الحقيقة لها عدة زوايا وأوجه، ولن تكون مُكتملة مهما قدمناها في أطباق مختلفة، وحدها المنجزات من ستحكُم على مسيرة الرجل، ووحدهم من كانوا إلى جنبه سواءً في الحكومة أو في الأحزاب أو الكتاب من سيمكنوننا من شهاداتهم تجاه الرجل-السياسي -المجاهد- الدبلوماسي".

وشدّد بوغابة في إفادته لـ "الترا جزائر"، أن كل هذه القضايا كان من المفروض أن تكون وجبة دسمة كمواضيع نقاش إعلامي، وليس بالغريب أن المجال متّسع عبر عديد القنوات التلفزيونية الخاصة التي لا تتورّع في مناقشة قضايا مجتمعية، وسياسية واقتصادية يومية، غير أنها لم تفرد المساحة والوقت بنفس الحجم إثر وفاة الرئيس بوتفليقة.

كنتيجة لمختلف القراءات، انقسم الإعلام الجزائري إلى صنفين؛ صنف يلتزم الحياد تارة والتّغافل تارة أخرى، ويمثّل هذا الصنف الصحافة العمومية، التي تفاعلت مع الحدث، تفاعلا تدريجيًّا بين برقية إخبارية، وخبر، وتقرير، بمنوالٍ بطيء يتأهّب لما تعلنه الرئاسة، وذلك وفقًا للصحافة الحكومية (التلفزيون الرسمي بقنواته والإذاعة الرسمية فضلًا عن الصحف التابعة للقطاع الحكومي) في البلاد.

أمّا الصنف الثاني يتجاوب بترقّب تارة ولامبالاة تارة أخرى إذ تجاوب القطاع الخاص، بنوع من التفاعل مع الحدث بإعطائه زخمًا من ناحيته الرسمية، والتركيز على ما تصدره الرئاسة الجزائرية، والتجاوب معه بالكثير من المشهدية سواءً بالصور أو الفيديوهات. ويفسّر هذا التجاوب مع الحدث من القطاع الخاص، أنها سارت حذو القطاع الحكومي، حتّى لا يكون الموقف مضطربًا أو مناقضًا لما يأتي من تغيرات في الخطاب الرسمي، وهو ما يضارع كيفية التعامل مع  الجنازة ومسارها.

تفادي الصدام والاستفزاز

الظاهر أن السّلطة لم تردّ لأن تكون وفاة بوتفليقة حدثا مركزيًا، لأن الشعب الجزائري خرج يوم 22 شباط/فيفري2019، إذ أوضح الإعلامي رياض بوزينة في تدوينة له على الفايسبوك أن تعامل السلطة مع الجنازة كان بحكِمة حدّ قوله: "أظنّ أن السّلطة سيّرت الجنازة بحكمة وتنظيمها بشكل رسمي هو القيام بالواجب اتجاه رئيس سابق وإبعادها عن الزخم الإعلامي الرسمي هو احترام لعموم الجزائريين".

 يبدو أيضًا أنّ طريقة تنحي الرئيس الراحل من السّلطة، جعلت الأخيرة تتحفّظ على التّعاطي مع وفاته وجنازته، غير أن ذلك يبيِّن أن الفرصة التّاريخية لتقدُّم الإعلام وحرية التعبير، ورفع اليد عن الإعلام، باتت بعيدة المنال.  

إن البعد الإيجابي الذي لا يمكن نكرانه، هو أن الإعلام يعتبر أكثر الأشياء قِسمة بين مكوّنات المجتمع، غير أنه في الحالة الجزائرية، فالبعض يوظّفه حسب "حساسية الأحداث أو حسب نزوات الحاكم"، فلا يمكن أن تستوي قرارات الحكومة في المجتمع وتستقرّ دون توظيف وسائل الإعلام لصالحها والتحكم في تسيير دفتّها.

في علاقة مع حدث الوفاة، تُوضّح هذه التجربة الأخيرة؛ خضوع مهنة الإعلام للتغييرات السياسية والتحولات التي تصاحبها، وذلك ما يجعلنا نتساءل عن مدى التزام المُشرِّع السياسي بحرية التعبير في الجزائر؟ ومتى ترفع السلطة يدها على الإعلام، الذي يشهد تحوّلات تُعاضِد التغيرات الحاصلة في المجتمع وديناميكيته؟ وهل هذه التحوّلات تحمِل بذور التغيير لفائدة إعلام يسهِم في توسيع هوامش الحريات؟

يبدو أن قطاع الإعلام في الجزائر اليوم يمرّ بفترة صعبة، حيث بات هامش الحرية فضاءً تستغلّه مكوّنات سياسية واقتصادية

يبدو أن قطاع الإعلام في الجزائر اليوم يمرّ بفترة صعبة، حيث بات هامش الحرية فضاءً تستغلّه مكوّنات سياسية واقتصادية، تٌخضِع الاعلام لتجاذبات الحكم وواقعية المنظومة السياسية الحالية.

 

اقرأ/ي أيضًا:

جون أفريك: تجريد زوجة بوتفليقة من امتيازات دبلوماسية في فرنسا

عصر بوتفليقة.. من تقديس الوطن إلى تقديس الفرد