16-أكتوبر-2019

تلخّص عبارة "يتنحاو قاع" أهمّ مطالب الحراك الشعبي في الجزائر (أ.ف.ب)

 كيف نفسّر استمرارية الحراك الجزائري، الذي انطلق في 22 شبّاط/فيفري 2019، بالوتيرة نفسها (مسيرات مليونية سلمية)، عبر كامل التراب الوطني، مدعومًا بمظاهرات الجالية الجزائرية في الخارج، رغم كل ما تحقق من مكاسب في مساعي القضاء على الفساد ورفض العهدة الخامسة وتأجيل الانتخابات وسجن "العصابة"، وفتح بعض ملفّات الفساد، هذا من جهة. ومن جهة أخرى استمرارية الحراك رغم كل المعيقات التي تعترض طريقه، وتحاول أن تضع حدًا له، باعتقال النشطاء السياسيين وغلق الطرقات وتوجيه الإعلام "الذباب الإلكتروني"، ومحاولة شراء السلم الاجتماعي، إلا أنّه رغم كل هذه المكاسب التي تحقّقت ورغم كل المعيقات المثبّطة التي تريد أن تضع حدًا له، ما زال يسير بالوتيرة والديناميكية نفسها، وحتى نُجيب على هذا السؤال، ينبغي أن نبحث عن الديناميكية الدافعة للحراك، وعن مصدر قوّة وإصرار الشعب في مواصلة مشروعه النضالي من أجل تأسيس جمهورية ثانية.

يبدو أنه لا شيء يُمكن أن يقف في طريق الحراك الذي بدأ منذ 22 شبّاط/ فيفري، هذا لأنه مدفوع بديناميكية قويّة

يبدو أنه لا شيء يُمكن أن يقف في طريق الحراك الذي بدأ منذ 22 شبّاط/فيفري هذا لأنه مدفوع بديناميكية قويّة، تتمثّل في "يتنحاو قاع"، حيث إن استمرارية الحراك بهذا الشكل، لدليل على إيمانه الكبير بمشروعه الطامح إلى "يتنحاو قاع". هذا الشعار الذي رُفع منذ بدايات الحراك والذي تأسّست عليه كل مطالب الشعب، يُمكن ترجمته سياسيًا واجتماعيًا بـ"ضرورة تنحيّة النظام الذي عاث في الجزائر فسادًا"؛ حيث كان الشيء الوحيد الذي يُجيد فعله هو تسيير وتوزيع الثورة (وليس إنتاجها) بالطريقة التي تسمح لهم بالنهب والاختلاس.

اقرأ/ي أيضًا: هشام قاوة.. الموسطاش يرسم الحراكَ الشعبي بألوان الـ"بوب آرت"

هذا النظام الذي كان حريصًا على نشر الفساد الاقتصادي والمالي، قد امتد ورمه إلى إفساد البنية الأخلاقية للمجتمع الجزائري؛ "راقدا وتمونجي"، وعقلية الربح السريع دون بذل الجهد الكافي والمناسب لتحقيق ذلك، وانتشار ثقافة التهاون والاستهتار في مؤسّسات العمل، وتهميش المعايير الحقيقة لنيل مناصب العمل المتمثّلة في الكفاءة والخبرة والتي تم تعويضها بالمعريفة والولاء والمحسوبية.

في ظلّ سياسية تعميم الفساد (الذي عدّ أكبر مشروع سياسي ناجح في الجزائر)، يمكن القول إنه لا يوجد مشروع اقتصادي أو معماري أو سياسي أو سياحي أو ثقافي أو اجتماعي لم يطله أخطبوط الفساد. هذا الفساد هو الذي خلق الطبقية في المجتمع الجزائري وأسّس للامساواة.

لقد تمّ القضاء على العمل النزيه والنظيف والمُتقن، (المجال المقاولاتي نموذجًا)، ممّا تسبّب في تشويه مفهوم العمل لدى وعي المجتمع الجزائري وكل ما يصاحبه من قيم الاجتهاد والنزاهة والإتقان، نتيجة العقلية التي نشرها اقتصاد الريع. وبذلك يمكن القول إنّ أكبر مهدّم للبنية الأخلاقية للمجتمع الجزائري، هو النظام الاقتصادي القائم على الريع؛ هذا النظام لم يعمل فقط على هدم القيم الأخلاقية وإنّما أيضًا أسس للطبقية واللامساواة.

 إنّ الحراك قام من أجل وضع حد لهذا الفساد المعمّم، ومن أجل مجابهة هذا الفساد كان لزامًا اعتماد آلية تطهيرية قوّية لمحاربته؛ هذه الآلية لا يمكن أن تكون كذلك إلا إذا كانت قائمة على مبدأ "يتنحاو قاع"، لأنّه حتى يتمّ القضاء على هذا الفساد؛ كان لزامًا ابتكار ديناميكية قويّة شاملة على شاكلة هذا الشعار. أوليس على قدر أهل العزم تأتي العزائم، ومنه يمكن القول إنّه على قدر الفساد الموجود كان طموح الشعب الجزائري قويًا وراديكاليًا.

 كيف نفسر إصرار الحراك على رفض الانتخابات المزمع إجراؤها يوم 12 كانون الأوّل/ديسمبر المقبل؟ إن الديناميكية التي قام عليها الحراك "يتنحاو قاع"، والتي تقف وراء مطالب الشعب، لا يُمكن أن تقبل بتنظيم انتخابات بهذا الشكل الذي يعيد إنتاج المنظومة السابقة. هناك تعارض كبير بين مشروع الحراك الطامح إلى تطهير الجزائر من بقايا الفساد وبين الآليات التي سوف تنظّم من خلالها الانتخابات، فالحراك يطالب بـ"يتنحاو قاع"، أما تنظيم الانتخابات كما يراها الحراك تفتح المجال لعودة نفس الوجوه التقليدية. إنّ رفض الحراك لتنظيم الانتخابات لا يعني أنه يقف ضدّ الخيار الديمقراطي؛ وإنّما هو رفض لإعادة إنتاج الصورة التقليدية الراهنة للنظام. الحراك لم يرفض نتائج الانتخابات حتى يُقال عنه إنّه يقف ضدّ الخيار الديمقراطي، وإنّما ضدّ الآليات التي يستند إليها تنظيم الانتخابات.

هناك قوى تريد أن تقف مع استمرارية النظام القديم، وقوى تُريد أن تطّهر الجزائر منه

من المؤكّد أن الحراك حرّر الشعب الجزائري من عقدة الخوف ومن عقدة الفساد، ولكن بالمقابل، صاحبته قيم الرقابة: ما قام به الجيش من اعتقالات لـ"العصابة" واحترافية في التعامل مع المتظاهرين، أكيد أنّه يتوافق مع مشروع الحراك وأهدافه، وهذا ما جعل الشعب يلتف حول قرارات المؤسّسة العسكرية، وقد جسد هذا التوافق الشعار الذي كان يرفع في كل المسيرات "جيش شعب.. خاوا خاوا". ولكن اعتقال نشطاء الرأي والتضييق على الحرّيات وتسقيف مطالب الحراك، يسير في نقيض مشروع الحراك، وهذا ما يُترجمه شعار "دولة مدنية ماشي عسكرية".

اقرأ/ي أيضًا: هل يفرض الحراك الشعبي منطقه على الجيش؟

ولكن يجب أن نُشير إلى مسألة مهمّة، وهي أنّ هناك أولويات متعلّقة بالوطن يريد الجيش تمريرها، باعتباره المسؤول الوحيد عن حالة الأمن والاستقرار السياسي. وتفاديًا لأيّ انزلاقات، ترى المؤسّسة المؤسّسة العسكرية أنه من الضروري الالتزام بالحلول الدستورية والإسراع في تنظيم وإجراء الانتخابات. وهذا يبيّن، كما تشير الباحثة الجزائرية عقيلة دبيشي، إلى أنه في الوضع الراهن: "ما زال الجيش الجزائري أو المؤسّسة العسكرية الأقدر على صياغة أولويات المرحلة المقبلة للبلاد. وما زالت قوى الشعب الجزائري تتطلّع للجيش بنظرتي الأمل والرهبة، وما زالت المعادلة المتناقضة هي سيّدة الموقف، حيث لا دولة مدنية ديمقراطية بدون حماية الجيش، ولا دولة مدنية ديمقراطية مع تدخّل الجيش".

صورة الوضع في الجزائر، تُبيّن أن هناك رغبة في تجاوز هذه المرحلة الراهنة، ولكن أبدًا لن يكون ذلك بمعزل عن الرؤية المستقبلية للمؤسّسة العسكرية. 

 إن منطق اشتغال الحراك كمنطق اشتغال جهنم: "هل من مزيد"، لأن الفساد الذي لحق الجزائر يحتاج إلى قوّة تطهيرية قويّة تستمدّ قواها من "يتناحو قاع". إنّ كل مقاومة للحراك هو في الحقيقة مقاومة لمبدأ "يتنحاو قاع". هذا المبدأ هو الذي جعل الشعب الجزائري عبر كامل القطر الوطني يخرج للمطالبة بتطهير الجزائر تطهيرًا كليًا.

ينبغي أن نشير أيضًا إلى أن حراك  شبّاط/فيفري الماضي، يؤكّد على أن الذي يقسم ويفرق الشعب الجزائري، ليس هو اللغة والهويّة والدين، ربّما تكون عوامل اختلاف، ولكن ليست أبدًا عوامل تفرقة. الذي يقسّم الجزائريين هو الفساد، هو الظلم.

هناك قوى تريد أن تقف مع استمرارية النظام القديم، وقوى تُريد أن تطّهر الجزائر منه. الصراع بين قوى الطائفتين هو الذي يقصم ظهر الجزائر. استمرارية الفساد هو ما يخلق الشقاق ويُذكي التفرقة والانقسام. وسينتقل تأثير الفساد إلى إذكاء الاختلافات الدينية والهووية واللغوية، لأنّ هذه الاختلافات التي ذكرناها لا يُمكن لها أن تتعايش في ظلّ منظومة فاسدة.

إنّ الجزائريين اليوم متّحدين في العمق، ولكن الذي يقسمهم ويفرقهم هو النظام الفاسد. ومنه فإنّ الذي يُريد أن يُدافع عن الجزائر ووحدتها عليه أن يتصدى للفساد. إن لم ينجح الحراك، فإن خيبة الجزائريين ستكون كبيرة وسنكون مضطرين لانتظار جيلٍ جديد كل الجدّة لم يذق مرارة هذه الخيبة، وطيلة تلك المرحلة ستتعمّق جراح الجزائريين، وسنشاهد هروبًا جماعيًا من البلاد.

إن الهروب لن يكون هروبًا من الوطن؛ ولكن هروبًا عن النظام الفاسد الذي يُريد الاستمرارية للفساد، عن النظام الفاسد وليس عن الشعب الجزائري المختلف ثقافيًا أو لغويًا أو دينيًا. المجتمعات المتقدّمة استطاعت أن تعيش بكلّ تنوعاتها الثقافية والعرقية والدينية؛ إلا أنّ ذلك لم يقد إلى التفرقة.

إنّ الذي يؤدّي إلى الفرقة، إلى الهجرة، إلى البؤس هو الفساد، هو فقدان الأمل في تحرير الجزائر من قبضة المُفسدين. أقول هذا لأنّ مشروع الحَرقة وهجرة الأدمغة والفرقة، سيزداد كثيرًا لو تمّت عرقلة مشروع الحراك. لأن ذلك يؤكّد على الفرضية التالية: أنه لا نستطيع التحرر جماعيًا في ظلّ إعادة إنتاج النظام الفاسد، ومنه يكون الحلّ في التحرر جزئيًا: الحرقة، هجرة الأدمغة.

 إنّ المتأمّل لتاريخ النظام الحالي، يكتشف أنه لم يتعامل أبدًا مع مثل هذه الحالة من الرفض والانسداد، حيث كان دائمًا يُواجه جهاتٍ وأطراف جزئية معينة؛ أو لنقل كان يواجه حراكات جهوية ومطالب جزئية، وها هو اليوم يواجه حراكًا شاملًا كاسحًا. ومنه فإنّ الآليات التقليدية التي كان يُمارسها مع المسيرات والمظاهرات ذات الطابع الجهوي والقطاعي، لم تفلح مع حراك 22 شبّاط/فيفري لأنه حراك شامل وراديكالي.

آليات الاحتواء والقمع والتهدئة كانت ستُجدي لو مارسها مع حِراكات جُزئية وبمطالب جزئية؛ ولكن أبدًا لن تفلح مع حراك شامل وبمطالب جذرية. لهذا أعتقد أن سبب استمرارية الحراك الوتيرة والتجنيد نفسهما، طيلة هذه المدّة وما زال كذلك، سواءً داخل الوطن وخارجه، يعود إلى ديناميكية الحراك ذات المطالب الراديكالية والمتمثّلة في "يتنحاو قاع".

 الحراك هو أمل كبير بالنسبة للجزائريين، وهو المجسّد الفعلي لإرادته. قوى الحرّية والتحرّر والتعدّد والاختلاف، أقوى من قوى الديكتاتورية والفساد، لن تخور قوى النضال والثورة، ولكن هذه القوى إن تمّ قمعها (والنظام هو الذي يتملك أدوات القمع والإكراه)، فهي لا بدّ لها مهما كلفها الأمر أن تتحرّر، ومنه لا بدّ لها أن تجد مخرجًا.

إنّ ثورة الشعب الجزائري ثورة شاملة، ولم تشمل فقط كلّ ولايات الوطن، ولكن حتى الجالية الجزائرية في الخارج

إنّ ثورة الشعب الجزائري ثورة شاملة، ولم تشمل فقط كلّ ولايات الوطن، ولكن حتى الجالية الجزائرية في الخارج كانت مع الحراك، مع التغيير، مع "يتنحاو قاع". هذا التجنيد من الخارج والداخل يُعبّر على أن الذي يوحّد الجزائريين، هو محاربة الفساد والانتهازية والوصولية، واستمرار المنظومة الفاسدة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

جداريات الغضب.. حاجز أمني يتحول منصةً لرسائل الحراك الشعبي

أول جمعة بدون بوتفليقة.. وعيُ الحراك الشعبي بمطالبه