21-ديسمبر-2024
حاربيط طبق تقليدي من نباتات البراري

حاربيط طبق تقليدي من نباتات البراري (صورة: فيسبوك)

"حاربيط" أو "أربيط" هو طبق موسمي مميّز يتكون من مزيج من الأعشاب البرية التي تنمو في غابات وبراري جبال البابور، والتي تشمل ولاية جيجل، شمال ميلة، ومناطق من ولاتي سطيف وبجاية شرق الجزائر.

طهي هذا الطبق يتطلب خبرة ومهارة واسعة في جمع الأعشاب من البراري

هذا الطبق يُواجه خطر الزوال، تمامًا كما هو الحال مع شبيهته "عصيدة أڤرني"، التي تُحضّر من جذور نبتة أذن الفيل التي تُشبه البطاطا، حيث تضافرت مجموعة من العوامل، مثل الهجرة من الريف إلى المدينة وتقلص المساحات البرية، لتقليص حضور هذا الطبق على الموائد.

الحاضر الغائب عن الموائد؟

وفي مقال له حول عْصيدة الأعشاب نُشر في سنة 2020 في مجلة "إثنوكولوجي" الفرنسية، يشرح الباحث في الثقافات الشعبية واللسانيات، ماسينيسا ڤروان، أنّ ارتباط هذا الطبق بفترات الفقر والمجاعة جعل بعض الناس يتخلون عنه بسبب الذكريات المؤلمة التي يحملها.

وأشار إلى أنّ "حاربيط"، مثل العديد من الوصفات الجزائرية التقليدية، قد يختفي في المستقبل القريب بسبب تراجع اهتمام الأجيال الجديدة بالتقاليد الغذائية القديمة.

وأوصى الباحث الذي أجرى دراسة ميدانية في إطار إعداد أطروحة دكتوراه بضرورة منح هذا الطبق اهتمامًا أكبر من خلال الدراسات المتخصّصة وتثمينه، والحفاظ عليه كجزء من التراث والهوية المحلية الممتدة عبر التاريخ.

وعبّر عن أمله في أن يُدرك سكان منطقة جبال البابور قيمة هذا التراث الفريد، ويتصدى في الوقت ذاته لانتشار الأطباق الدخيلة والتوجه نحو توحيد الأنماط الغذائية.

حاربيط طبق تقليدي من نباتات البراري

طبق الـ" الڤمرة"

يتميّز طبق "حاربيط" أو العصيدة النّباتية ببساطة المكوّنات، ولكن تحضيره يتطلّب معرفة دقيقة بالأعشاب للتمييز بين الصالح منها، فضلاً عن مهارة في تحديد المقادير اللازمة لتحقيق التوازن بين النكهات المرّة أو الحامضة للأعشاب.

يوضّح غروان أنّ طهي "حاربيط" يتطلب خبرة حقيقية، حيث يجب على من تقوم بإعداده أن تكون لديها مهارة واسعة في جمع الأعشاب من البراري أو "الڤمرة"، وهي كلمة أمازيغية أصلها "تڤمارت"، وتعني جمع الأعشاب من الحقول والبراري.

"نا عائشة" البالغة من العمر 70 عامًا، والتي نشأت في الريف الجنوبي لجيجل، تشرح في حديثها لـ "الترا جزائر"، حول اكتساب مهارة اختيار الأعشاب المناسبة لهذا الطبق: "تعلمت منذ صغري كيفية اختيار الأعشاب الصالحة من خلال اختلاطي بالنّساء الأكبر مني سنًا، اللاتي علمنني كيفية التمييز بين الصالح للأكل وغير الصالح".

وتُضيف: "من المهارات الأساسية التي تعلمتها أيضًا هي كيفية توزيع المقادير بشكل مناسب لضمان طعم غني وذوق طبيعي وقوام متماسك، فالتوازن بين المكونات هو سر نجاح "حاربيط" كما هو الحال مع أي طبق آخر".

على الرغم من أنّ جمع الأعشاب عادة ما يكون مهمة خاصة بالنساء اللاتي يخرجن بمفردهن أو في مجموعات للقطاف، إلا أنه ليس غريبًا أن يشارك الرجال في "الڤمرة"، حيث يقومون بتشذيب الحدائق المنزلية وممارسة الفلاحة الجبلية أو رعي الماشية.

تُغسل هذه الأعشاب بعناية لإزالة الأتربة ثم تُقطع وتُوضع في قدر تقليدي أو معدني مع ماء ساخن

قيمة غذائية وفائدة صحية

 تختلف النباتات المستخدمة في تحضير "حاربيط" حسب المنطقة ووفرة الموارد، إذ أشار الباحث غارون إلى صعوبة إعداد قائمة شاملة بالنباتات المستخدمة في طهي هذا الطبق، حيث أظهر في دراسته اختلافات بين الأعشاب المستخدمة في مناطق مثل جيجل وضواحيها (أولاد عيسى، أولاد طافر)، بني حبيبي شرق الولاية، وآيت إسماعيل وآيث بويوسف في منطقة تاسحليت أو الساحل ببجاية. ومع ذلك، توجد بعض النباتات الأساسية التي تتكرر في معظم المناطق مثل الهندباء، السلق البري، زقطوف (القراص)، لسان الثور، الحميض البري، بيبراس (الكراث البري)، الخبيزة، الحرشاء و"السلة".

تُغسل هذه الأعشاب بعناية لإزالة الأتربة، ثم تُقطع وتُوضع في قدر تقليدي أو معدني مع ماء ساخن، ويضاف إليها الملح، البصل، والثوم، وقد يُضاف دقيق الشعير أو الفول المدقوق لزيادة التماسك. في بعض الطرق، يتم استخدام اللحم المقدد أو الشحم المملح والفلفل الحار والليمون.

وتُترك المكونات تُطهى على النار لمدة ساعة تقريبًا مع التحريك، وقبل التقديم، يُضاف زيت الزيتون. وتتميز العديد من الأعشاب المستخدمة بفوائد علاجية، مثل القراص الذي يُوصى به علميًا لعلاج التهابات المفاصل.

حاربيط طبق تقليدي من نباتات البراري

أطباق مشابهة ومحاذير

يعدّ "حاربيط" أحد الأطباق الخاصة بمنطقة البابور المعتمدة على الأعشاب كمكوّن رئيسي، وله شقيقات في مناطق أخرى مثل "أحلول" في بجاية، "بوحلوس" في عموشة (سطيف)، و "أركثي إيغيزن" في تيبازة.

تتشابه هذه الأطباق الثلاثة في ارتباطها بعيد ينّاير (رأس السنة الأمازيغية، 12 كانون الثاني/ ياناير من كل عام).

يصف نورالدين، المنحدر من تيبازة غرب الجزائر، تجربته مع "حاربيط" قائلًا: "اكتشفت الطبق في ضيافة صديق من أولاد عسكر بأعالي جيجل، وظننت في البداية أنّه ملوخية بسبب لونه الأخضر الداكن، لكن تذوّقه أعادني إلى ذكريات الماضي، حينما كانت جدتي ووالدتي تتفننان في اختيار أفضل الأعشاب البرية من جبال شنوة لإحياء موسم يناير."

أمّا "أركثي إيغيزن" فيتكوّن من خليط من الحشائش الجبلية مثل الريحان، النعناع الأوروبي والعادي، القصبر، الزعتر، التيمرصاد (فصيلة من النعناع)، والعديد من الحبوب البرية الموسمية.

ويرى نورالدين أنّ "حاربيط" لا يختلف عن "أركثي" في منطقة قوراية، كونهما مصدرًا للدفء والطاقة، بالإضافة إلى مذاقهما الطيب والصحي.

بالرغم من غِنى الأعشاب والنباتات المستعملة في الطبخ بالأملاح والمعادن والزيوت الصحية، وإمكانية استخدامها في الحِميات، إلا أنّ الأطباء يحذّرون من الاعتماد الكلي عليها؛ إذ وتؤكّد أخصائية التغذية خديجة بن علال أن تناول الأطعمة النباتية مفيد للصحة لغناها بالمعادن والألياف الطبيعية، مستدركة في تصريحها لـ "الترا جزائر": "المشكلة في الاعتماد الكلي عليها دون تناول اللحوم، إذ يواجه الأشخاص خطر الإصابة بفقر الدم وتراجع حجم الكتلة العضلية في الجسم".