26-يناير-2025
جامعة

جامعة جزائرية (صورة: أرشيف)

بقلق وتوجس، توجّهت الباحثة جميلة سراوي إلى مقر جامعة سطيف (شرق البلاد) بحثًا عن مخرج لأزمتها الأكاديمية.  تتابع دراستها في الدكتوراه بتخصص "اقتصاد كمي"، تقول: "إنّها أزمة حقيقية..لقد تلقيت رسالة عبر البريد الإلكتروني تنبّه الباحث بأنّ آخر أجل لإيداع الأطروحة تمّ تحديده بتاريخ نهاية شهر نيسان/ أبريل 2025".

مصير غامض يواجه الآلاف من الباحثين بتحديد الـ30 أفريل المقبل كآخر موعد لوضع رسائل الدكتوراه على المنصة  الرقمية للجامعة  أو الإقصاء

وصلت رسالة التبليغ عن هذا الموعد عشرات الباحثين من مختلف التخصصات العلمية ومن عدة جامعات، فيما كشف البعض أنّهم لم تصلهم أي إشعارات أو تنبيهات، متمسّكين بحبل التّمديد في الآجال القانونية.

عملية التمديد هذه، وكما ينصّ عليها القانون مدتها لا تتجاوز عامين بالنسبة لنظام " أل. أم. دي" أي ثلاث سنوات في سلك الدكتوراه زائد سنة رابعة وخامسة تمديد حسب موافقة المشرف، أو ست سنوات بالنّسبة للنظام الكلاسيكي أي خمس سنوات زائد سنة واحدة.

وثيقة من جامعة المسيلة لإقصاء المتأخرين عن مناقشة أطروحة الدكتوراه

 

 الدكتوراه..من سنة لأخرى  

كغيرها من المتعطلين عن إتمام الأطروحة (رسالة الدكتوراه والتخرج)، انغمست جميلة (43 سنة) في " تمدّد الزمن" الممنوح من الإدارة، ففي البداية كانت السنة الأولى والثانية والثالثة مجرد أرقام إلا أنها مع اقتراب الرابع ثم الخامس بدأت تتحسس من استكمال الأطروحة، لتصل اليوم إلى رقم تسعة من عمر هذا البحث الذي لم يكتمل بعد.

انخرطت في الحياة العائلية الزوجية والمهنية أيضاً، فهي أستاذة في التعليم الثانوي منذ تسع سنين، تحصلت على شهادة الماجستير في 2013، وفق النظام الكلاسيكي لتسجيل مباشرة في سلك الدكتوراه، غير أنّها لم تتمكن من إتمام بعض الفصول من الأطروحة، كغيرها من عديد الزملاء ممن تعثرت أبحاثهم العلمية.

تقول لـ" الترا جزائر" إنّها اختارت أحد المواضيع القريبة من اهتماماتها، غير أنّه مع مرور الوقت والسنوات صار الموضوع قديم وباتت عدة مُخرجات أكاديمية تفرج عن بحوث مشابهة، إذ اضطرها الأمر تغيير العنوان مرتين.

التغيير على عنوان الرسالة لم يشفع لها بالانطلاق مُجدّدا، وسقطت في فخّ التسويف اليومي، ثم التسويف مع كل سنة تمرّ من العمر القانوني لمتابعة الدراسات العليا، في مقابل أنّ الحياة الاجتماعية جعلتها تبتعد شيئا فشيئا عن عالم البحث العلمي.

ليست هي الوحيدة التي تتخبّط في هذا الأمر، فهناك من بلغ  تسجيله في طور الدكتوراه إلى العام العاشر ، وأغلق بذلك عقد من الزمن ولم يبدأ حتّى في تدوين رسالة البحث.

مدرج بجامعة جزائرية

الدراسات العليا ..حبل الزّمن يتمدّد

قد يبدُو الأمر غريباً بعض الشيء، لكن هناك عدّة نقاط ظل في هذا الواقع الذي يعيشه الباحثون في الجزائر، أمام متطلبات الحياة اليومية بالنسبة لمن يحملون مسؤولية العائلة أو الأسرة فضلا عن بيئة البحث العلمي في حدّ ذاتها.

يقول محمد الأمين مزاري لـ"الترا جزائر" بأنّ تخصصه رياضيات، وهو ما جعله أمام تحدي كبير في إنجاز أطروحة لها ما يقابلها من تحيين ومستجدات على المستوى البحثي، خصوصا وأنه تمكن من نشر مقالين عمليين، ما جعله "يستهل العمل على أطروحته".

هذا الباحث تعثّر هو الآخر أمام التزاماته اليومية مع الأسرة وبُعد المسافة بين مقر مسكنه بولاية البليدة غرب الجزائر إلى جامعة باب الزوار بالعاصمة، بالنسبة له ليست حُجّة ولكن يقول:" رقميا هي مسافة قصيرة من حيث المسلك الممتدة بين المنطقتين ( 45 كيلومترا فقط ) ، لكنّها فعليا تحتاج إلى تخطيط أسبوعي من أجل الذهاب ومقابلة الأساتذة.. إن التنقل إلى الجامعة وغيرها من الكليات للبحث عن موجهين خاصة، في حدّ ذاتها مشروع وجب التخطيط له وتأديته قبل استكمال المشروع البحثي".

 بالمحصلة لا يمكن أن تكون الحجة المقدمة من هذا الباحث هي السبب الرئيسي في تأخره البحثي، بل هناك أسباب أخرى، يذكرها في عجالة:" العامل النفسي أهمها، ثم التغيرات التي تطرأ على البحث فما كان جديدا في عام 2018 صار اليوم قديم وجب تحيين المعلومات ولمعطيات المُدرجة في البحث"

هناك قاعدة تقول:" عندما يتمدد الزمن يتمدد العمل"، وهي حمّالة أوجه وعدة زوايا نظر، لكن بالنّسبة للباحثين فهي  أهمّ عامل دفع بالكثيرين إلى " الدخول في دوامة اللّحاق بالمواعيد والأيام والآجال وطرح السؤال : هل صحيح هناك إقصاء؟" 

ينتظرُ آلاف المتأخّرين عن إنجاز أطروحات الدكتوراه ومناقشتها، مصيرًا غامضًا وسط تهديدات بعض الجامعات والمعاهد بالإقصاء بالنّسبة لمن تجاوزت المدة القانونية لوضع الأطروحة على مستوى هيئة المجلس العلمي للكلية.

أوضحت وثيقة رسمية على مستوى عدة كليات منها سطيف وبرج بوعريريج والمسيلة وبجاية في مختلف التخصصات أنّه تقرّر تحديد آجال الآجال لإيداع أطروحاتهم في يوم 30 نيسان/ أبريل المقبل، مثلما أعلنت عن ذلك جامعة محمد بوضياف بالمسيلة.

جامعة جزائرية (صورة: أرشيف)

 

موعد حاسِم للأطروحات

كشفت وثيقة حصلت عليها " الترا جزائر" عن إجراءات جديدة تهدف إلى تنظيم عملية متابعة طلبة الدكتوراه وضمان الالتزام بالمواعيد الأكاديمية.

هذه الإجراءات تتعلق بالطلبة المتأخرين عن إتمام أطروحاتهم، وكذلك الطلبة المنقطعين عن أعمالهم البحثية.

وذكرت أنّه بالنسبة للطلبة المتأخّرين الذين يواصلون التواصل مع مشرفيهم، الذين لم يقومون بإيداع أطروحتهم للمناقشة في هذا التاريخ، يعتبر متخلفًا عن الآجال المُحدّدة، مما يُعرّضه للشّطب من قوائم المسجلين في الدكتوراه قبل نهاية السنة الجامعية 2024-2025.

وبالتالي، يُعتبر الطالب المتخلّف عن تقديم الأطروحة في الموعد المحدّد متخليًا عن منصبه في الدكتوراه.

أما بخصوص الطلبة المنقطعين تمامًا عن الدراسة وعن أعمالهم البحثية ولم يتواصلوا مع مشرفيهم، فقد قررت الجامعة اتخاذ إجراءات صارمة ضدهم، وسيتم شطبهم من قوائم المسجلين في الدكتوراه قبل نهاية سنة 2024. يشمل هذا الإجراء خطوات واضحة تبدأ بطلب تقرير مفصل من مشرفي الطلبة المنقطعين، يتضمن سبب انقطاعهم وتوصية بشطبهم نتيجة لعدم التواصل والعمل البحثي.

بعد ذلك، سيُعرض التقرير على الهيئات العلمية لاتخاذ الإجراءات المناسبة، وفي النهاية يتم إرسال محاضر وقوائم المشطوبين إلى نيابة مديرية الجامعة للتكوين العالي فيما بعد التدرج.

في السياق، دعت بعض الجامعات من الطلبة المعنيين بهذه الإرسالية، تواصل الطلبة الباحثين مع مصلحة ما بعد التدرج في الكلية التابع لها أي باحث عن طريق مختلف الوسائط الرقمية، للاستفسار عن مختلف المستجدات.

جامعة جزائرية (صورة: أرشيف)

مُعضلة المقال العلمي

تُعد معضلة نشر المقال العلمي في مجلات محكّمة أبرز التحديات التي يواجهها العديد من طلبة الدكتوراه، حيث يُعتبر النّشر العلمي شرطًا أساسيًا لوضع ملف الأطروحة والمرور للاطلاع من قبل اللجنة العلمية وتمكين الباحث من مناقشة الأطروحة.

هذا الوضع يُعرّضهم لضغوط متزايدة في انتظار قرارات من شأنها حلّ مشاكلهم على مستوى الجامعات

يُعاني الكثير من الباحثين من صعوبة  إيجاد مجلات مُحكّمة تقبل مقالاتهم، وذلك بسبب شروط النشر الصارمة، مثل جودة البحث والمراجعة الدقيقة.

بالإضافة إلى أنّ عملية التحكيم تستغرق وقتًا طويلاً، ما يؤدي إلى تأخير النشر وبالتالي تأخير المناقشة. علاوة على ذلك، يواجه العديد من الباحثين صعوبة في الوصول إلى مجّلات عالمية ذات معامل تأثير مرتفع، ما يجعلهم يتجهون إلى المجلات المحلية التي قد تكون أقل شهرة ولكن لا تنسجم مع بالمتطلبات الأكاديمية.

وفي هذا المنحى يدعو الأستاذ في كلية العلوم الاجتماعية والإنسانية بجامعة الشلف (باحث وأستاذ مؤقّت) إلى ضرورة إيجاد حلول مبتكرة، مثل دعم الجامعات في تيسير عملية النّشر العلمي، أو فتح قنوات تواصل مع المجلات العلمية لإزالة بعض العوائق أمام نشر الأبحاث الأكاديمية.

وذكر البعض أنّ هذه المعضلة دفعت الكثيرين في التخصصات العلمية والتقنية على وجه خاص؛ إلى النّشر في مجلات مع دفع رسوم النشر، ولكن في الأخير أضحت من "المجلات المفترسة" وغير معترف بها في وزارة التعليم العالي ضمن المجلات المسموح بها في إطار المنشورات الأكاديمية وملفات المناقشة وحتى بالنسبة للترقيات في إطار " التأهيل الجامعي".

مكتبة جامعية صورة أرشيف

طلبة الدكتوراه .. سِباق مع الزمن

يعيش الآلاف من طلبة الدكتوراه من الباحثين في سباق مع الزمن، للعمل بكل جُهد للوفاء بالآجال القانونية المطلوبة لإنهاء دراساتهم الأكاديمية، خاصة في ظل التحديات الدراسية والمهنية والاجتماعية.

هذا الوضع يُعرّضهم لضغوط متزايدة، خاصة وأن عديد الجامعات فضلت التعامل مع القضية حالة بحالة، وهو أمر غير منطقي من ناحية أنّ ذلك يسقط الكثيرين في فخّ التماطل، في انتظار قرارات من شأنها حلّ مشاكلهم على مستوى الجامعات.

لكن تبقى الحلول المركزية على مستوى الجامعات هي الأمل الأكبر، يظلّ الخيار مفتوحًا للمؤسسات الأكاديمية لتحديد كيفية التصرف مع منتسبيها من الباحثين وفقًا للوضع الحالي وإنقاذ الآلاف من شبح الإقصاء.