لم يتوقّف اليمين المتطرف الفرنسي عن نفث سمومه ضدّ الجزائر وكل ما يمتّ إليها بصلة في بلاده، خلال سنة 2024، ما فتح الجانب المظلم من تاريخ هذا التيار مجدّداً، الذي لم يقبل يوماً استقلال الجزائر، وأعاده للواجهة، بعد أن حارب بشراسة مستعملاً الإرهاب في محاولة دحض الثورة التحريرية في أواخر سنواتها.
اليمين المتطرّف يُعارض بشدّة كل مبادرات الاعتراف بالجرائم الاستعمارية الفرنسية
اليوم، وبعد عقود من انتهاء الاستعمار، يُعيد هذا التيار، بخطابه ومواقفه المتطرّفة، إثارة التوتر في العلاقات الجزائرية-الفرنسية، مستغلاًّ الملفّات الحساسة المتعلقة بالذاكرة والوجود الجزائري في فرنسا، لعرقلة أي علاقات طبيعية بين بلدين مستقلين يريدان بناء علاقاتهما على النّدية والمصالح المشتركة، بعيدا عن خلفيات الماضي القائمة على الوصاية والتبعية الموروثة عن العهد الاستعماري.
- استعداء الجزائريين
وخلال السنة المنقضية، لم يفوّت اليمين المتطرف الفرنسي فرصة للتأليب ضدّ الجزائر، وهو ما ظهر جليًا في سلسلة التصريحات والمواقف التي سجّلها أبرز رموزه. ففي سياق الحملات الانتخابية، صعّد هذا التيار من خطاباته العدائية، حيث بدأت سنة 2024 على وقع ردود الفعل من تصريحات رئيس حزب "استرداد" إيريك زمور، الذي تعهّد باستعادة "فرنسية" مرسيليا تحت قيادة مرشح حزبه، وذلك في رده على تصريحات عمدة مارسيليا بونوا بايان، الذي وصف مدينته بأنها "أكبر مدينة جزائرية في فرنسا".
ولا يخرج هذا الخطاب الذي يوظّفه اليمين المتطرف في سياقات مختلفة، عن فكرة واضحة تقوم على محاولة إقصاء الجزائريين ومحو أثرهم في فرنسا، بشكل يعكس استمرارية النّظرة الاستعمارية لهذا التيار، التي ترفض الاعتراف بالتحولات الاجتماعية والثقافية التي طرأت على المجتمع الفرنسي منذ استقلال الجزائر.
ومن هنا، يمكن فهم موقف اليمين المتطرّف من اتفاقية التنقل بين البلدين لعام 1968، التي تعتبر بالنسبة له امتيازًا غير مستحق يمنح الجزائريين أحقية الإقامة والعمل في فرنسا. وقد تكرّر الهجوم على الاتفاقية بشكل مركز سنة 2024 من أجل تأليب الرأي العام الفرنسي ضد الجالية الجزائرية، وإظهارها كمسؤولة عن المشاكل التي تتخبط فيها فرنسا.
خلال السنة المنقضية، لم يفوّت اليمين المتطرف الفرنسي فرصة للتأليب ضدّ الجزائر، وهو ما ظهر جليًا في سلسلة التصريحات والمواقف التي سجّلها أبرز رموزه
أمّا على مستوى الذّاكرة التاريخية، فإنّ اليمين المتطرّف يُعارض بشدّة كل مبادرات الاعتراف بالجرائم الاستعمارية الفرنسية في الجزائر، ما يعكس رفضه المستمر للتعامل مع الماضي بشكل عادل وإنساني.
فعندما طرحت النّائبة الفرنسية من أصل جزائري، صبرينة صبايحي، مشروع قانون للاعتراف بمجازر 8 أيار/مايو 1945 في سطيف وخراطة وقالمة، وقف التيار المتطرف في البرلمان بالمرصاد لهذا المقترح، محاولا عرقلته.
وهو الموقف ذاته الذي أبداه هذا التيار عند تبني الجمعية الوطنية الفرنسية لقرار يندد بمجازر 17 تشرين الأول/أكتوبر 1961، حيث وُوجهت هذه الجهود بمحاولات تشويه وعرقلة.
- التضليل الإعلامي
وفي تطور جديد، باتت السياسة العدائية لليمين تعتمد أسلوبًا يقوم على التضليل الإعلامي ضد الجزائر. وتبرز هنا، واقعة النائبة الأوروبية عن حزب "استرداد" سارة كنافو كمثال بارز، فقد ادعت في أكثر من مناسبة في سنة 2024 أن الجزائر تتلقى 800 مليون دولار سنويًا كمساعدات من فرنسا، رغم تكذيب هذا الرقم من قبل وسائل إعلام كبيرة في بلادها مثل قناة "تي أف 1" التي أجرت تحقيقا صحفيا كشف زيف هذا الادعاء.
ومع نهاية السنة، جاءت قضية اعتقال الكاتب بوعلام صنصال في الجزائر، لتكشف مرة أخرى عن ازدواجية خطاب اليمين المتطرف بشأن حرية التعبير. فقد انتفضت رموز هذا التيار بقوة ضد سجن صنصال وحرّكت البرلمان الأوروبي لأجله، في وقت كان نواب هذا التيار الأكثر رفضا داخل المؤسسة البرلمانية الأوروبية، لكل ما يتعلق بدعم حرية التعبير سواء داخل أوروبا أو خارجها. وبغض النظر عن الجدل الكبير الذي اثاره سجن صنصال حتى في الجزائر نفسها، يظهر الدفاع المشبوه لليمين المتطرف عنه، أغراضا أخرى غير الادعاءات الإنسانية والمدافعة عن حرية التعبير.
وفي خضم هذا الاستدعاء المتكرّر للجزائر، هناك من يرى أن مواقف اليمين المتطرف ليست سوى جزء من استراتيجية أوسع تهدف إلى توظيف الجزائر في المشهد السياسي الفرنسي الداخلي، سواء لكسب الأصوات أو لتوجيه الرأي العام نحو قضايا انقسامية. وهو ما عبّر عنه وزير الخارجية الجزائري أحمد عطاف، حين أكد أن بعض السياسيين الفرنسيين يجدون في ذكر الجزائر "ورقة سهلة" لتحقيق أهداف سياسية ضيقة، دون مراعاة التأثيرات السلبية لهذه الممارسات على العلاقات الثنائية.
- ريع سياسي
وفي تحليله لذلك، يرى الباحث في علم الاجتماع السياسي، نوري دريس، أنّ اليمين الفرنسي بشكل عام، واليمين المتطرف بشكل خاص، يعتبر الجزائر موردًا سياسيًا مهمًا يستخدمه كأداة للتعبئة السياسية الداخلية. وبذلك، تعد الجزائر بالنسبة لهذا التيار نوعًا من "الريع السياسي" الذي يعتمِدون عليه ويستغلّونه لتحقيق مكاسب داخلية.
الباحث في علم الاجتماع السياسي، نوري دريس لـ"الترا جزائر": هناك مصالح اقتصادية ومالية ضخمة مهددة بسبب فقدان فرنسا لامتيازاتها القديمة في الجزائر
وأوضح دريس في حديثه مع "الترا جزائر" أن الأمر لا يقتصر على هذا الجانب فقط، إذ تتشابك المسألة حسبه مع أبعاد تاريخية وسيكولوجية وأيديولوجية.
وأشار إلى أنّ هناك عداءً حقيقيًا دفينًا تجاه الجزائر عند اليمين الفرنسي، وهو عداء يعود أساسًا إلى فقدانهم الجزائر، تلك الجزائر التي اعتقدوا لفترة طويلة أنها جزء من فرنسا. وأوضح أن اليمين الفرنسي لم يتصور يومًا أن الجزائر قد تحصل على استقلالها، وهو ما ترك أثرًا نفسيًا وتاريخيًا عميقًا لدى هذا التيار.
ويشير الباحث إلى أنّ اليمين المتطرّف كان يرى أن الجزائر ستتحول إلى دولة فاشلة وخراب بمجرد انفصالها عن فرنسا، مستشهدًا بما كان يقوله دعاة "الجزائر الفرنسية"، الذين يُعدون أسلاف اليمين المتطرف الحالي. لكن هذه التوقعات لم تتحقق، حسبه، وهو ما يُزعج هذا التيار ويدفعه إلى العمل دون كلل من أجل إثبات صحتها بأي شكل.
وفي اعتقاد دريس، فإنّ نظرة اليمين الفرنسي للجزائر تندرج ضمن تصور أوسع لكل ما هو عربي وإسلامي. فهم ينظرون إلينا، حسب قوله، باعتبارنا "متوحشين ومتخلفين بالفطرة"، وأنّنا لا نستحق أن يكون لنا دولة أو مكانة داخل النظام الدولي.
ولفت إلى أن هذه النظرة ليست حكرًا على السياسيين، بل يروج لها أيضًا كتّاب ومثقفون، وبعض هؤلاء ينحدرون من الضفة الجنوبية للمتوسط، أي من الدول المستعمرة سابقًا. واعتبر أن هؤلاء المثقفين هم نتاج استعماري خالص، يعيشون في إطار عقدة الدونية من الغرب.
في ختام حديثه، أشار نوري دريس إلى أنّ هناك مصالح اقتصادية ومالية ضخمة مهددة بسبب فقدان فرنسا لامتيازاتها القديمة في الجزائر.
وذكر أنّ الشركات الفرنسية التي كانت تستفيد من هذه الامتيازات تعاني من خسائر يصعب على فرنسا هضمها. وأضاف أن هذه الأطراف، رغم استقلال الجزائر، لا تزال تتصرف كأنها صاحبة حق في الجزائر، وكأن الاستقلال لم يغير من واقع الأمر شيئًا.