شهدت الساحة الجزائرية تطورات ملحوظة في ملف السيارات، الذي أصبح موضوعًا بارزًا في الآونة الأخيرة، إذ بدأ العام الجاري بتفاؤلٍ واسعٍ بعد منح اعتمادات جديدة ودخول علامات عالمية، ثم تحوّل إلى تحديات منذ سنتين ألقت بظلالها على السوق وأربكت الوكلاء والمستهلكين على حد سواء. وكانت البداية مبشّرة بدخول المركبات الصينية السوق الجزائرية بعد سنوات من منع الاستيراد، بالإضافة إلى السيارات الأوروبية الإيطالية والألمانية.
قرابة ربع مليون سيارة تضمنتها كوطة الاستيراد لسنة 2023 لكن هذا العدد لم يحظ بإتمام عملية التوطين البنكي كاملًا بسبب الإجراءات الإدارية
كما سبق وأن صرّح رئيس اللجنة التقنية لمتابعة ملف المركبات بوزارة الصناعة وقتها، مقداد عقون، وذلك شهر يناير / كانون الثاني 2024 بقائمة العلامات التي حصلت على اعتمادات استيراد ومن المتوقع دخولها السوق قريبًا أي خلال عام 2024، مثل "باييك"، "سوزوكي"، "جي إم سي"، إلى جانب علامات انطلقت مسبقًا مثل "فيات"، "شيري"، "جيلي"، "جاك"، و"أوبل"، و"دي أف أس كا" و"سيتروان" الذي تحصل على حصة خمسة آلاف مركبة لكنه لم يستنفذها، حيث تم إلغاء وثيقة التوطين البنكي الخاصة به، مع العلم أن تلك العلامات لم يظهر لها أثر في السوق ما عدا "فيات"، "جيلي"، "شيري"، "أوبل"، "دي أف أس كا" و"جاك"، وهذا بسبب عدم الإفراج عن كوطة جديدة.
وأمضى الوكلاء وقبلهم المواطنون عامًا كاملًا وهم يترقبون ساعة الإفراج عن حصص كل متعامل وموعد دخول السيارات السوق، وجاء ذلك وسط تصريحات متضاربة طيلة السنة لوزير الصناعة والإنتاج الصيدلاني السابق الذي أكد مرات عديدة أن السيارة ليست أولوية، ثم رد على أسئلة الصحفيين حول الملف بعبارة "تعبت ولا أريد سؤالًا حول السيارات"، ليعود ويقول عشية التعديل الحكومي الأخير وساعات قبل إقالته أنه تم منح 66 اعتمادًا لممارسة نشاط وكلاء المركبات الجديدة، خلال سنة 2024، وأن الاستيراد محل دراسة، وهي التصريحات التي أبانت عن تخبط كبير في تسيير الملف.
أما كوطة 2023 فقد تضمنت استيراد 227,232 مركبة، مع تخصيص ميزانية تقديرية لها بلغت 2.6 مليار دولار لهذا الغرض، ولكن لم يحظ هذا العدد كاملًا من المركبات بإتمام عملية التوطين البنكي، بسبب إجراءات إدارية على مستوى وزارة التجارة وترقية الصادرات سابقًا والتي تم تقسيمها اليوم إلى وزارتين، لتخفيف الضغط عنها، لاسيما وأن ملف تسيير رخص التوطين البنكي معقدٌ و"شائك"، ويحتاج إلى اهتمام خاص إذ سبق وأن انتقد رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون كيفية تسييره في آخر مجلس وزراء مع الحكومة السابقة التي طالبها بالاستفاقة وعدم المساس باحتياجات المواطن.
صعوبات واجهت المتعاملين
كما أن العام الجاري لم يخلو من الصعوبات، فقد واجه بعض الوكلاء تحديات في تسليم مركباتهم، إما بسبب انتهاء حصصهم الرسمية، كما حدث مع وكيل العلامة الصينية "شيري"، التي علّقت تسليم سيارات لزبائنها البالغ عددهم أكثر من 10 آلاف زبون، منتظرة الكوطة الجديدة لعام 2024، وأكدت أنها إما ستستورد هذه المركبات التي دفع الزبائن 10 بالمائة من ثمنها في حال فتح حصص جديدة أو ستصنعها محليًا في حال عدم فتح الحصص، لكنها لم تمنح أية تفاصيل عن مشروع التصنيع.
ومن جهته، عانى وكيل علامة "جيلي" الصينية من عراقيل إدارية تتعلق بتمديد وثيقة التوطين البنكي، ما عرقل استكمال حصته رغم نجاحه في تسويق وتسليم 11 ألف مركبة وإعلانه عن مشروع بارز للتصنيع محليًا.
وفيما أحرزت "فيات" تقدمًا كبيرًا في التصنيع المحلي، وبلغت رقمًا قياسيًا بإنتاج 250 مركبة يوميًا من طراز "دوبلو" في مصنع وهران ناهيك عن مواصلة تصنيع "فيات 500"، يظل الطلب المحلي أكبر بكثير من قدرة الإنتاج على مستوى مصنع وهران الذي لا يسعه لوحده تلبية الطلب الوطني.
أما "باييك"، وهي علامة صينية متحصلة على اعتماد الاستيراد سنة 2023، فقد بقي مصنعها في باتنة خارج الخدمة رغم جاهزيته بسبب غموض يلف الاعتمادات المطلوبة وإلى جانب ذلك، استمر وكلاء آخرون مثل "جويير" و"جيتور" في إدخال مركبات نموذجية للسوق، منتظرين توزيع الكوطات الرسمية ومتفائلين بذلك.
وأمام كل هذه التحولات، فتحت مصالح العدالة تحقيقات تتعلق بمخالفات ترتبط بتسويق المركبات خارج الحصص الرسمية وقضايا رشوة واستغلال نفوذ، طالت مسؤولين ووكلاء بارزين، مما أضفى مزيدًا من التعقيد على المشهد، حيث يمنع القانون بيع المركبات بعد استنفاذ الكوطة خاصة وأن المعنيين استلموا مبلغ 10 بالمائة من الزبائن، كما تم فتح تحقيق حول كيفيات نيل الاعتمادات وتم سجن إبن وزير سابق على ذمة التحقيق وفرض الرقابة القضائية ضد وكيل بارز مقرب منه.
وباقتراب نهاية العام، يظلّ ملف السيارات مفتوحا على كل الاحتمالات، بين تسريح بقية كوطة 2023 التي تشمل 28 ألف مركبة وترتبط بالوكيل "جيلي" ضمن كوطة 39 ألف مركبة تخص عام 2023، حتى يستلم الزبائن سياراهم، خاصة وأنه تم بيعها في إطار الحصة المرخصة، مع القيام بكافة إجراءات التوطين، ويتقاطع ذلك مع آمال بتوزيع حصص استيراد جديدة تخفف الضغط على الطلب العالي للمواطنين والنقص الكبير للمركبات الجديدة في السوق وتمكن زبائن دفعوا القسط الأول للسيارة حتى قبل الإفراج عن الكوطة من الظفر بمركباتهم وتنهي معاناة 66 وكيلا استثمروا في المنشآت.
تنسيق حكومي محكم
وفي خضم الجدل الدائر حول أزمة السيارات في الجزائر، دعا النائب البرلماني عبد القادر بريش إلى ضرورة تبني دراسة أعمق لهذا الملف، مشددًا في تصريح لـ"الترا جزائر" على أهمية إيجاد حلول جذرية وتنسيق فعّال بين مختلف الوزارات. وأوضح بريش أن معالجة أزمة السيارات تتطلّب دراسة دقيقة لاحتياجات المواطن ووضع آليات واضحة للاستيراد والتصنيع وفق رؤية تراعي هذه الاحتياجات.
وقال بريش: "من غير المعقول أن يبقى سعر السيارات مرتفعًا بهذا الشكل في الجزائر، في ظلّ استمرار ندرة المركبات وارتفاع أسعار السيارات المستعملة إلى مستويات قياسية، هذا الوضع لا يمكن أن يستمر، ويستوجب تدخلًا عبر حلول لا تُثقل كاهل الوضع المالي للدولة، لكنها في الوقت ذاته تُريح المواطن وتوفر له سيارة حتى ولو بحصص غير كبيرة".
كما شدّد النائب على أهمية الانتقال التدريجي نحو التصنيع المحلي، مؤكدًا أن هذا النهج سيكون الحل الأمثل على المدى البعيد لتخفيف الاعتماد على الاستيراد وتطوير الاقتصاد الوطني. وأشار إلى أن التنسيق الحكومي ضروري لتسطير احتياجات السوق وضمان استيراد وتصنيع المركبات بما يخدم المواطن أولًا، مع مراعاة الاستدامة المالية للدولة.
عانى وكيل علامة "جيلي" الصينية من عراقيل إدارية تتعلق بتمديد وثيقة التوطين البنكي، ما عرقل استكمال حصته رغم نجاحه في تسويق وتسليم 11 ألف مركبة وإعلانه عن مشروع بارز للتصنيع محليًا
وختم بريش تصريحه بالقول: "ملف السيارات أصبح قضية ملحة تتطلّب إرادة قوية وإجراءات ملموسة توازن بين مصلحة المواطن والاستقرار الاقتصادي للدولة، فالتصنيع التدريجي هو الطريق الأمثل، ولكن يجب أن يبدأ بحلول قصيرة المدى تسهم في تلبية الطلب الحالي وتخفيف حدة الأزمة".