تسعى الحكومة إلى تعزيز العائدات الضريبية في عام 2025 من خلال تقليص النشاط الاقتصادي الموازي، الذي يُقدّر بتداول مليارات الدولارات خارج الأطر القانونية.
الكتلة النقدية المتداولة في المعاملات غير الرسمية تجاوزت الحدّ المعقول
ويهدف هذا المسعى إلى تكثيف التنسيق والتعاون بين مختلف القطاعات الوزارية المعنية بالسوق غير القانونية، لكن يبقى السؤال المطروح: هل سينجح هذا التوجه في تحقيق هدف فشلت فيه عدة حكومات سابقة؟
تحاول الحكومة بكل السبل زيادة مداخيلها المالية خارج قطاع المحروقات، لذا أصبح إدماج السوق الموازية ضمن النشاط الاقتصادي الرسمي من أولوياتها.
ويهدِف هذا التحرّك إلى محاربة التهرّب الضريبي وزيادة العائدات الجبائية، خاصة أنّ الكتلة النقدية المتداولة في المعاملات غير الرسمية قد تجاوزت الحدّ المعقول، ممّا يعكِس حجم الظاهرة مقارنة بالاقتصاديات الأخرى.
إرث اقتصادي ثقيل
تُعدّ السوق الموازية ظاهرة مستمرّة، ولا تتحمّل الحكومة الحالية مسؤوليتها بالكامل، خاصة في ظلّ محاولاتها للخروج من الاقتصاد الريعي، كما صرح بذلك العديد من المسؤولين، وتُعتبر هذه الظاهرة نتيجة لسياسات اقتصادية تراكمت على مدار السنوات.
وفي هذا السياق، أكد الخبير الاقتصادي محفوظ كاوبي في تصريح لـ"الترا جزائر" أنّ التوصيف الدقيق لهذا الوضع هو "ازدواجية الأسواق"، حيث تتواجد سوق رسمية وأخرى غير رسمية. وقد تفاقمت هذه الظاهرة منذ الثمانينات، عندما بدأت السوق غير النّظامية تأخذ حيزاً أكبر بسبب الخلل الذي أصاب منظومة الأسعار نتيجة لتلك الازدواجية.
أوضح كاوبي أن الخلل في الاقتصاد الجزائري يتمثل في وجود أسعار مدعمة وموجهة من خلال تدخلات إدارية في السوق الرسمية، مما أدى إلى فارق في الأسعار مقارنةً مع السوق غير الرسمية التي تحكمها آلية العرض والطلب.
وأشار إلى أنّ هذه الأسعار المدعومة تسببت في صعوبة توفير المواد الأساسية مثل الخبز، الفرينة، والحليب، وصولاً إلى العقارات والعملات، حيث لا تعكس الأسعار الرسمية القيمة الحقيقية المتداولة في السوق الموازية.
من جانبه، أكد وزير المالية لعزيز فايد أنّ التدابير الجديدة في قانون المالية لسنة 2025، التي تشمل إلزامية إجراء المعاملات العقارية عبر وسائل الدفع البنكية، تشكل خطوة هامة في مكافحة السوق الموازية وتعزيز الشفافية في قطاع العقارات.
وأبرز الخبير الاقتصادي أنّ جميع الحكومات الجزائرية المتعاقبة حاولت محاربة ازدواجية الأسواق، ولكنّها فشلت في ذلك، باستثناء الحكومات التي عملت خلال فترة التسعينات، حيث اضطرت لتطبيق توصيات صندوق النقد الدولي التي أوصت بتوحيد الأسعار والأسواق. وقد أسهم هذا التوحيد في تقليص الفارق في أسعار العملة بين السوق الرسمية وغير الرسمية إلى 20 بالمئة.
ورغم أنّ تطبيق توجيهات صندوق النّقد الدولي كان مفيدًا من الناحية الاقتصادية من حيث حرية الأسعار، إلا أنّه كان له تأثيرات قاسية على المستهلِك، حيث ساهم في تسريح آلاف العمال، ورفع تكاليف المعيشة، مما أدّى إلى تآكل الطبقة الوسطى، التي تعد أساسًا لتطور المجتمع على كافة الأصعدة.
انتقادات
تلقى توصيات صندوق النقد الدولي انتقادات واسعة في الجزائر، حيث ارتبطت بشكل رئيسي بالمديونية الخارجية ودفع فوائد الدين. وفي هذا السياق، قال رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون في لقاء تلفزيوني في ترشين الأول/ أكتوبر 2021: "صندوق النّقد الدولي يتعامل وكأنه يمهد الطريق نحو الاستدانة. لن نذهب للاستدانة وهي من المستحيلات. ولن نأخذ البلاد للانتحار السياسي"، مستنكرًا في حينها توصيات الصندوق التي دعت لتأجيل تطبيق الإصلاحات الهيكلية، مؤكدًا أن الجزائر ماضية في تنفيذ هذه الإصلاحات بكل سيادة.
ورغم ذلك، شهدت العلاقة بين الجزائر وصندوق النّقد الدولي تحسنًا سنة 2024، حيث رفع الصندوق تقييمه للاقتصاد الجزائري، ووضعه في المرتبة الثالثة أفريقيًا، مع توقعات باستمرار نموه في العام المقبل.
من جانبه، يرى الخبير الاقتصادي محفوظ كاوبي أن الفهم الدقيق لمشكلة السوق الموازية يتطلب الابتعاد عن الأحكام القيمية المسبقة. ويشدد على أن الدراسات أظهرت وجود علاقة مباشرة بين السوق الموازية وزيادة الإنفاق العمومي على السلع المدعمة، مما يساهم في تفاقم الوضع الاقتصادي.
خطة شاملة
قبل نهاية 2024، ترأس وزير المالية لعزيز فايد بمعية وزير التجارة الداخلية وضبط السوق الوطنية الطيب زيتوني اجتماعاً تنسيقياً مشتركاً، ركّز على بحث السبل الكفيلة بالتصدي لظاهرة النشاط الاقتصادي غير المنظم والأسواق الموازية وتقليص آثارها السلبية على الاقتصاد الوطني، وذلك ضمن رؤية شاملة تهدف إلى تعزيز الموارد المالية العادية وتوسيع الوعاء الضريبي، بما ينسجم مع أولويات قانون المالية لسنة 2025، وتوجيهات رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون، كما ورد في بيان وزارة المالية.
في العادة، كانت الاجتماعات الخاصة بمكافحة السوق الموازية تقتصر على قطاع واحد، لكن هذه الخطوة تعتبر ذات أهمية خاصة لأنها تعكس التكاتف بين مختلف القطاعات الوزارية المعنية. وهي تعبير عن الإقرار بتعقيد وتشعب ظاهرة الاقتصاد غير الرسمي، التي تؤثر سلبًا على صورة الاقتصاد الجزائري.
وشدّد وزير المالية على ضرورة تعزيز التنسيق بين الوزارات المختلفة لتحقيق العدالة الضريبية وبناء الثقة في المنظومة الاقتصادية. وأكد أن تقليص حجم الاقتصاد غير المنظم يتطلب معالجة شاملة لجميع المعاملات التجارية.
وأضاف أنّ عام 2025 سيكون عامًا محوريًا للتحول الرقمي واستخدام واسع لوسائل الدفع الإلكتروني، مما سيسهم في تحسين تحصيل الموارد المالية والجبائية.
من جانبه، أكد وزير التجارة على أهمية قطاع التجارة في تحفيز الاقتصاد الوطني، وأشار إلى ضرورة البحث عن آليات لتحسين الموارد الجبائية ومكافحة السوق الموازية. كما شدد على أهمية تعزيز العدالة الاجتماعية والمالية، وترسيخ الطابع الاجتماعي للدولة، من خلال نشر ثقافة المواطنة الجبائية وتوعية الفاعلين الاقتصاديين لتعزيز مقاربة تشاركية تساهم في القضاء على الأشكال غير الرسمية التي تعرقل تحقيق الأهداف الاقتصادية المرجوة.
استقطاب
كشف وزير التجارة الداخلية وضبط السوق الوطنية، الطيب زيتوني، أنّ قطاعه يعمل حاليًا على إعداد آليات لدمج الأنشطة الاقتصادية غير الرسمية في إطار الاقتصاد المنظم.
ولفت الخبير الاقتصادي محفوظ كاوبي في تصريح لـ"الترا جزائر" إلى أنّ محاولة دمج السوق الموازية ضمن الاقتصاد الرسمي ليست فكرة جديدة، مشيرًا إلى أن الإجراءات التي اتخذها الوزير الراحل عبد الرحمان بن خالفة كانت من أبرز التجارب في هذا المجال، حيث سعى بن خالفة إلى احتواء هذه السوق والاستفادة منها، بالنظر إلى أنها تضم طاقات بشرية كبيرة وكتلة مالية متداولة يجب استقطابها لتوحيد الأسواق وتحويلها إلى مصدر للثروة.
وأشار كاوبي إلى أن هذا النموذج الذي نجح في دول مثل تركيا وإيطاليا واليونان، حيث تم تحويل السوق الموازية إلى نشاط إنتاجي رغم أنها لا تعادل حجم السوق الرسمية.
الخبير كاوبي: يمكن احتواء السوق الموازية والاستفادة منها واستقطابها لتوحيد الأسواق وتحويلها إلى مصدر للثروة.
في هذا السياق، أكد رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون في سبتمبر 2021، خلال تنصيب أعضاء المجلس الوطني الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، أنّ الأرقام تشير إلى أن السوق الموازية تتداول نحو 10 آلاف مليار دينار جزائري، أي ما يعادل 90 مليار دولار".
ويرى الخبير الاقتصادي محفوظ كاوبي أنّ تقليص الآثار السلبية للسوق غير الرسمية يتطلب التخلص من الاقتصاد الريعي، الذي اعتمدت عليه العديد من الحكومات في الجزائر عند زيادة عائدات النفط.
هذه الحكومات، حسب كاوبي، كانت تلجأ إلى زيادة الدعم والإنفاق، مما أدى إلى عدم تطبيق سياسات لتوحيد الأسعار وتحرير الأسواق، فضلاً عن غياب رؤية طويلة المدى للحد من الفوارق الاقتصادية. ويعتبر كاوبي أن الحل الأمثل للحد من السوق غير الرسمية هو تبني سياسات تعمل على تقليص هذه الفوارق من خلال تحسين الشفافية وضبط الأسعار.
ويضيف كاوبي أنّ الحد من السوق الموازية يتطلب أيضًا حرية في الاستثمار وتنظيم الأسواق وتقليص التدخلات، لأن أي إجراء لا يراعي هذه الأسس قد يؤدي إلى عدم القدرة على التحكم في السوق الموازية.
في المقابل، تؤكد الحكومة أنّ قانون الاستثمار الجديد الصادر في 2022 يتضمن مزايا عدة لتسهيل الاستثمار، بما في ذلك وضع قطيعة مع الممارسات السابقة التي كانت تُقيّد انفتاح الجزائر على رأس المال الأجنبي والخاص.