21-يوليو-2019

احتفالات الجماهير الجزائرية في مارسيليا/ فرنسا (كليمون ماهودو/ أ.ف.ب)

يُسمّي الجزائريّون الأسمر المائل إلى السّواد "الكحلوش" ومؤنّثه "الكحلوشة". وهو الاسم الذّي أطلقوه على كأس أمم أفريقيا، التّي افتكّها الفريق الوطنيّ، الجمعة، في نهائيّ مثير جمعه بالفريق الوطنيّ السنغالي، بهدف سجّله اللّاعب بغداد بونجاح في مطلع المباراة، وظلّ صامدًا على مدار 94 دقيقة.

كان حضور المرأة لافتًا في الشارع الجزائري أثناء احتفالات الجماهير بالكأس الأفريقية

كان الانطباع بأنّ النّتيجة لم تحسم إلى غاية الثّواني الأخيرة من الوقت الإضافيّ، لذلك لم تنطلق مظاهر الاحتفال الشّعبيّ بالتّتويج، الذّي لم يذق الجزائريّون طعمه منذ عام 1990، إلّا بعد أن صفّر الحكم الكاميروني أليوم نيانت، الذّي نال من لعنات الجزائريّين ما قد لا يناله بقيّة مساره الرّياضي، بسبب ما اعتبروه انحيازًا صارخًا منه للفريق الخصم.

اقرأ/ي أيضًا: الكأس في الجزائر والفرح في فلسطين

شاهدتُ المباراة في الحيّ، الذّي أقيم فيه في مدينة برج بوعريريج، 200 كيلومتر إلى الشّرق من الجزائر العاصمة، رفقة شباب اجتمعوا على شاشة تلفزيون أحضره الشّاب تميم، الذّي يدير محلًّا صغيرًا للأدوات المدرسية وألعاب الأطفال. ثمّ وجدت نفسي منساقًا إلى قلب المدينة، لأرصد مظاهر الاحتفال، الذّي دعت فعاليات المجتمع المدنيّ إلى أن يكون بلا سيّارات تجنّبًا لأيّ حادث شبيه بالحادث المأساوي الذّي خلّف ضحايا في ولاية جيجل شرقي البلاد، خلال الاحتفال بالمرور إلى الدّور النّهائي، إلّا أنّ الاستجابة كانت صفريّة.

على مدار ساعتين، وقفتُ على مشاهد يمكن اعتبارها إبداعًا، فيما يمكن اعتبار أخرى جنونًا. وسأكتفي بالإشارة إلى أقوى خمسة مشاهدَ منها.

يا ربّي تجلَّ

كان المشي الجماعيّ طاغيًا على الطّرق والمساحات العامّة. إذ يندر أن تشاهد من يمشي وحده. وبينما كنت متوجّهًا إلى جماعة من الشّباب لفتت انتباهي طريقة رقصها وسط الطّريق، جلس شابّ عشرينيّ على ركبتيه وراح يصرخ بطريقة جنونيّة، ثمّ أغمي عليه. رشّه أصحابه بالماء، فصحا وراح يصرخ من جديد رافعًا رأسه إلى السّماء، وهو يقول: "يا ربّي اظهر لأقبّلك وأحتضنك وأقول حمدًا لك".

استنكر أصحابه تصرّفه غير اللّائق مع الذّات الإلهيّة، فصفعه أحدهم حتّى يخرج من حالته الهستيريّة. وحين حصل ذلك راح يستغفر ربّه، ويشكره على توفيق الفريق الوطنيّ للنّصر.

الحكم الكاميروني يحضر الاحتفال

أحضر أحد الكهول دميةً كبيرةً في شكل فزّاعة مصنوعة من الخشب والقماش ومدهونة بالسّواد، في إشارة إلى الحكم الكاميروني أليوم نيانت، الذّي خلف الحكم الجنوب أفريقي فيكتور غوميز، في قرار مفاجئ للاتحاد الأفريقي لكرة القدم "كاف"، الخميس، وراح يضربه في مناطق مختلفة من جسده. ثمّ راح يطلب من المارّة أن يبصقوا عليه، ففعلوا ذلك بحرارة واضحة، طبعتها كلمات نابية لم يمنعها حضور نساء وعجائز وفتيات.

في لحظة ما، خطف شابّ عشرينيّ الدّمية من يد صاحبها، وأشعل فيها النّار. فانهال عليه هذا الأخير ركلًا وشتمًا، لأنّه حرمه بحرق الدّمية من استكمال التّنفيس عن غضبه من الحكم المنحاز.

تهوّر يسير على عجلات

في المسافة الفاصلة بين حديقة التّسلية وبنك "سوسيتي جنيرال"، أثارت شاحنة معبّأة بشباب عراة الصّدور اشمئزاز المحتفلين، بسبب مناورات السائق الخطيرة وسط الطريق يمينًا وشمالًا، إذ أوشكت الشّاحنة على الانقلاب، إلى درجة أنّ بعض الذّين يعتلونها كانوا يسقطون أو يوشكون على السّقوط، غير أنّهم كانوا يضحكون ثمّ يعودون إليها.

كان مشهدًا مخيفًا. لأنّ العواقب كانت ستكون وخيمةً لو حدث أن انقلبت الشّاحنة، وقد سقطت نصائح المارّة وصيحاتهم واستنكاراتهم ورجاءاتهم بالكفّ عن هذا السّلوك المجنون في الماء، إذ كان السّائق يوغل في العبث بالشّاحنة كلّما دعاه أحدهم إلى الكفّ عن ذلك.

رقصات شابّة في جسد عجوز

سبق لي أن عاينت خروج المرأة الجزائريّة إلى جانب الرّجل. لكنّ ذلك لم يتجسّد بشكل واضح، بما فيها مسيرات الحراك الشّعبيّ والسّلميّ، مثلما حدث خلال الاحتفال بافتكاك "الكحلوشة". وقد كان قطاع واسع من النّساء يشارك في الاحتفال بفوز الفريق الوطنيّ في الأدوار الثّلاثة الرّئيسيّة السّابقة من هذه الدّورة لـ"الكان"،  بالزّغاريد من النّوافذ والشّرفات، لكنّ خروجهنّ هذه المرّة أعطى انطباعًا بأنّ البيوت بات فارغة.

تلحّفت عجوز مسنّة بالعلم الوطنيّ، وراحت ترقص في الطّريق، بحيويّة ونشاط فتاة في مقتبل العمر. كانت لا تخضع في رقصها لريتم الموسيقى المنبعثة من المحلّات والهواتف النّقالة، بل ترقص وفق موسيقى نايليّة (لون غنائيّ في السّهوب الجزائريّة). وكانت لا تتوقّف حتّى وهي تتلقّى قبلات الشّباب على رأسها.

في لحظة مزاح شبابيّ، تمّ استقدام شيخ لتمثيل مشهد زواج مع العجوز الرّاقصة، فطالبته بالانسحاب "وإلّا سأكشف عن عورتي.. أنا شيخي مات. ولن أستبدله بغيره، حتّى لو أعطوني الكأس التّي حصلوا عليها اليوم في مصر".

السّباحة ضدّ التّيّار

زالت الفوارق بين المحتفلين. فالمرأة كانت إلى جانب الرّجل، والكبير إلى جانب الصّغير، وصاحب السيّارة الفاخرة إلى جانب صاحب السّيّارة الهشّة، والموظّف والتّاجر إلى جانب البطّال، والقرويّ إلى جانب المديني. وكانت الهتافات والأغاني والأهازيج تهيمن على الحناجر والشّوارع والسّاحات العامّة.

يبدو أنّ هذه المظاهر والمشاهد أثارت الحميّة الدّينيّة لأحد الشّباب الملتحين، فراح يصرخ في النّاس: "يا قوم اتّقوا الله. ما تفعلونه منافٍ للكتاب والسّنّة، الاختلاط حرام.. الموسيقى حرام.. التعرّي حرام".

كان يفعل ذلك بحماس واضح، وكان المحتفلون ينتبهون إليه، ثمّ سرعان ما يتجاوزونه بالغرق في اللّحظة. إلى أن تدخّل ثلاثة شباب يبدو أنّهم من جماعته، وطلبوا منه أن يدخل بيته، "فسوف لن يفيد ما تقوم به، بالعكس، سوف تقوم بتشويه الدّعوة".

لا شكّ في أنّ الرّوح القتاليّة، التّي لعب بها ثعالب جمال بلماضي، والفلسفة التّي اعتمدها في تدريبهم جديرتان بالدراسة

لا شكّ في أنّ الرّوح القتاليّة، التّي لعب بها ثعالب جمال بلماضي، والفلسفة التّي اعتمدها في تدريبهم وتنقية الفريق الوطنيّ من أمراضه، بما أهّله لافتكاك هذا الفوز الثّمين، جديرتان بالتّثمين والدّراسة، تمامًا مثلما هي جديرة الطريقة التّي احتفل بها الجزائريّون بذلك. فهل نتجاوز إهمال دراسة وتفكيك لحظاتنا العميقة، حتّى نبني عليها في مسعى رسملة فتوحاتنا وترميم فتْحاتنا؟

 

اقرأ/ي أيضًا:

نالها من يستحقّها.. الجزائر تحمل كأس أمم أفريقيا للمرّة الثانية في تاريخها

محاربو الصحراء .. فوز مستحق بالكأس الأفريقية الثانية