12-يونيو-2022

(الصورة: الخبر)

قبل أكثر من قرن ونصف من الآن، لم يتجاوز عدد المترشحين لنيل شهادة الباكالوريا في الجزائر 50 طالبًا خلال فترة الاحتلال الفرنسي، حيث كانت فرص التعليم الثانوي والعالي شبه محرّم على الجزائريين، وكان تركيز الإدارة الاستعمارية منصبًا على توفير التعليم للأوروبيين المستوطنين.

لا يمكن أن ننظر اليوم لشهادة الباكالوريا بمعزل عن السياق الاجتماعي الذي تعيشه الأسرة الجزائرية

بعد الاستقلال، ألغت الجزائر القوانين التربوية الفرنسية وأحدثت الباكالوريا الجزائرية بموجب قوانين ومراسيم في سنة 1963، إذ بلغ عدد المتحصّلين على الشهادة الكبرى وقتذاك 1751 مترشحًا، بحسب أرقام الديوان الوطني للإحصائيات لتصبح الباكالوريا منذ ذلك الحين قيمة علمية واجتماعية تحمل رمزية اجتماعية ومعبرًا بين مرحلتي الطور الثانوي والتعليم العالي يجتازها الآلاف كلّ سنة.

بداية مسار

تعتبر الباكالوريا شهادة يحصل عليها التلميذ بعد امتحانات نهاية الدروس الثانوية، واختتام مرحلة وبداية أخرى يفتتح بها الناجحون مرحلتهم الجامعية، أو كما وسمها البعض تحت مسمى " شهادة الخلاص من العبء التعليمي نحو تحقيق أحلام المستقبل وبوابة المهنة".

تحدّثت أستاذة الرياضيات في المدرسة العليا للأساتذة بالقبة بالعاصمة الجزائرية سليمة معروف عن تلك الشهادة "الحُلم والقيمة والمكانة" كما قالت، إذ لازالت الباكالوريا تأخذ مكانة مهمّة وتحوز مساحة عظيمة لدى اللأسر الجزائرية على حدّ سواء، بل هو نجاح الأبناء ومُنجز الأولياء.

ولم تخفِ السيّدة معروف التي تحصلت على شهادة الباكالوريا في سنة 1989 في حديثها لـ" الترا جزائر" تلك التغيّرات الحاصلة حول الشّهادة في حدّ ذاتها ولذاتها، إذ شرحت ذلك بالقول: "في السّابق أو قبل أكثر من عقدين كانت الباكالوريا صورة نابعة من حبّ التلاميذ للتعلم والارتقاء في اكتساب المعارف، وقراءة الكتب والاطلاع على الجديد، فضلًا عن كونها تجمع الأسرة الجزائرية أيام الامتحانات حول الأبناء الممتحنين،وتعطي للوالدين خصوصًا رفعة أمام الجيران والأقارب، إذ كانت في وقت ما خطوة عظيمة تُكسب العائلة الجزائرية البسيطة حالة اجتماعية جديدة، ويغمرها الفخر والاعتزاز". 

وأَضافت بين الماضي والحاضر فرق كبير، إذ لا ننسى أنه بعد استقلال كان همّ العائلة الجزائرية هو الأمن والاستقرار والعيش الكريم وشغلها الشاغل هو توفير لقمة العيش والرغيف خصوصًا بعد احتلال طويل وحرب خلّفت الدمار".

وبين الأمس واليوم بون شاسع، من ناحية قيمة الشهادة المتحصل عليها؛ فالباكالوريا ظلّت إلى وقت قريب مفتاح المستقبل لدى كثيرين في المجتمع وسوق الشغّل، ولازالت في المخيّلة الاجتماعية لها "رمز وقيمة "، بل هي علامة تضحيات الآباء بإيصال أبنائهم إلى الجامعة وتمكينهم من تحقيق ما لم يحققه بعض الأولياء.

في هذا السياق تتذكر السيدة رقية بن ناصف (63 سنة) الموظّفة السابقة في الضّمان الاجتماعي بولاية ميلة شرق الجزائر أنها لازالت تتذكر كيف نجح أبناؤها في الباكالوريا تباعًا وكيف تمكنت من "منحهم رفقة زوجها مما استطاعا من جهد ووقت ومال لتدريسهم "، حدّ تعبيرها.

وأردفت محدثة " الترا جزائر" أن الباكالوريا لها نكهة خاصة وفرحة متميّزة لا يمكن موازاتها مع أيّة شهادة أخرى ولا مساواتها مع فرحة أخرى، إذ لا تنسى تلك الأيام عندما استقبلت نجاح أبنائها عبر المذياع ثم الإسراع إلى ثانوية "الشهيد عبد الحفيظ بو الصوف لرؤية أسمائهم وكلّ مرة لا تنيسها فرحة سابقيها".

رمزية الدّراسة

في سياق متّصل، لا يمكن أن ننظر اليوم لشهادة الباكالوريا بمعزل عن السياق الاجتماعي الذي تعيشه الأسرة الجزائرية عمومًا، وتطوّر اهتمامات الفرد الجزائري واختلاف ظروفه، خاصّة بالنسبة للمراهق -التلميذ الذي يدرس في السنة الثالثة ثانوي الذي يختلف واقعه عن ذلك الفرد قبل ثلاثة أو أربعة عقود من الزّمن، خصوصًا أمام التحولات الاجتماعية والاقتصادية والتكنولوجية أيضًا.

في هذا الإطار ذكر السيد كريم بلعيدوني ( 69 سنة موظف متقاعد)  أن "قصة الباكالوريا قصة جميلة جدًا،  إذ كانت تحمل هذه الشهادة مدلولات ورمزية قوية لدى الأسرة الجزائرية، يلتفّ حولها جميع أفرادها ويسهرون على نيل الممتحن هذه الخطوة، وعندما يفوز بها تقام الأفراح والأعراس لسبعة أيام".

وأضاف في هذا السياق، أن الباكالوريا فقدت بريقها وأصبحت شهادة ككل الشّهادات أو بالأحرى، باتت سهلة المنال لانفتاح التعليم على الجميع، ولا ننسى التحولات التي تعيشها الأسرة، خصوصًا مع تطور التحصيل التربوي بشتى الطرق وفي شتّى المجالات، فضلًا عن صعود الآلاف كلّ سنة إلى هذه المرحلة الحاسِمة من عمرهم التربوي.

فوز الأبناء والأسرة

تحظى اليوم هذه الشهادة بمكانة مهمة وقيمة في المجتمع الجزائري، إذ يلاحظ متتبعون لها الأهمية التي  يحتلّها هذا الامتحان، فترى الباحثة في علم الاجتماع هند بوعقادة في إفادة أكاديمية لها حول هذه الموضوعـ بأن الباكالوريا من أهم الامتحانات التي يمرّ بها الفرد في مساره الدراسي باعتبارها امتحانًا مصيريًا يتوقف عليه مستقبله الدراسي والمهني.

وبذلك تعتبر الباكالوريا أمرًا ضروريًا  للارتقاء الاجتماعي والحصول على مكانة واعتراف في المجتمع، يشترك في نيلها الأبناء بدعمٍ كبير ٍمن الأولياء والأسرة عمومًا، وذلك من خلال الاستثمار المادي والمعنوي من أجل الظفر بها والنجاح لتخطي عقبة الثانوية نحو الجامعة.

مستقبل غامض؟

والملفِت للنَّظر، مرافقة الأسر لأبنائها خلال التّحضير واجتياز الامتحانات الخاصة بالباكالوريا، فبالرغم ممّا يقال اليوم عن الشهادة من الناحية الإجرائية، وارتفاع أرقام البطالة في صفوف الحائزين على الشّهادات العليا والمتخرجين من الجامعات والمعاهد، إلا أن الأسرة تتمسك بمساندة أبنائها في هذه المرحلة بالذّات.

لا تتخلّى العائلة الجزائرية عن تشجيع أبنائها لاجتياز الباكالوريا لأثرها البالغ في قلب الأسرة والوالدين خاصة، في مقابل يرى البعض أن عبور هذه الخطوة ليس معيارًا للنّجاح إذ أكدت أن الواقع الحال يشير إلى ذلك إذ "صارت لا تمثل للكثيرين شيئًا، فمقاييس النجاح تغيرت ولا يعني بالضرورة الحصول على الشّهادة".

لا يمكن أن ننظر اليوم لشهادة الباكالوريا بمعزل عن السياق الاجتماعي الذي تعيشه الأسرة الجزائرية

خلال ستة عقود من الزمن، منذ استقلال الجزائر تغيّرت أرقام الباكالوريا من مترشّحين نظاميين وأحرار، فتاريخ الشّهادة بات استراتيجية كبرى تخطط لها وزرارة التربية لإنجاح تحضير الامتحانات المصيرية، وإعداد بروتوكولات مرتبطة بها بالتنسيق مع مختلف المؤسّسات الرّسمية، بالإضافة إلى الأساتذة والإداريين والمفتشين وقطاع الأمن والدرك والإعلام، حرصًا على مصداقية الشّهادة وسيرها في ظروف ملائمة.