12-يونيو-2022

(الصورة: العربي الجديد)

يخوض أكثر من 700 ألف مترشّح طيلة هذا الأسبوع امتحان البكالوريا الذي يحظى باهتمام رسمي ومجتمعي كبيرين في الجزائر، بالنظر إلى تحديده بنسبة كبيرة مستقبل الناجح والراسب فيه، لكن الكثير من الجزائريين سواءً كانوا طلبة أو ربما حتى أساتذة لا يعلمون الكثير عن تاريخ هذا الاختبار الذي يعرف في دول المشرق العربي بـ "امتحان الثانوية العامة".

التعليم الثانوي والجامعي كان يمثل مصدر خطر بالنسبة لفرنسا، ويساهم في نشر الوعي ضد السلطة المحتلة، لذلك كان أغلب المحظوظين بالتعليم من أبناء الآغوات والقياد الموالين للاحتلال.

ورغم الحظوة التي يتمتّع بها وسط الجزائريين، إلا أن التأريخ والكتابة عنه تظلّ إلى اليوم محدودة، وتتعلق في الغالب بمحتوى امتحاناته لا على مسيرة الامتحان بذاته.

منذ الاستعمار

رغم المستوى التعليمي الذي كان يتمتع به الجزائريون قبل دخول الاستعمار الفرنسي إلى الجزائر في 1830، إلا أن النظام المطبق لم يكن يتضمن امتحان البكالوريا بشكله الحالي، واستمر الأمر على ذاك طيلة ربع قرن بعد قدوم الاحتلال، ففي الموسم الدراسي 1854- 1885 بدأت فرنسا التي عرفت البكالوريا في 1801، في إرسال لجان لتنظيم هذا الامتحان  بالجزائر لفائدة أبناء المعمرين وجنود الاحتلال، فقد كان نصيب الجزائريين المسلمين من التعليم شبه معدوم بالنظر إلى أن التجهيل كان أحد سياسة فرنسا الاستعمارية.

وبقي الوضع على حاله حتى سنة 1879، حينما شرعت ثانوية الأمير عبد القادر بالعاصمة (ثانوية بيجو سابقًا) باحتضان أقسام تحضيرية في الآداب وأخرى في شعبة العلوم.

وتشير الإحصاءات إلى أنه في سنة 1892 لم يكن عدد التلاميذ الذين يزاولون دراستهم بالمتوسطات والثانويات يزيد عن 90 تلميذًا، مع العلم أنه خلال العقد الممتد من 1880 إلى 1890، لم يكن سوى أربعة جزائريين مرشحين لإمكانية الحصول على شهادة البكالوريا، وفي 1914 ارتفع العدد إلى 15 طالبًا، 13 منهم ضمن تخصص الفلسفة واثنان في تخصّص الرياضيات.

ويؤكّد مؤرخّون أن هذا التغييب للجزائريين في المجال التعليمي لم يكن اجتماعيًا إنما سياسيًا بسبب السياسة الكولونيالية، لأن التعليم الثانوي والجامعي كان يمثل مصدر خطر بالنسبة لفرنسا، ويساهم في نشر الوعي ضد السلطة المحتلة، لذلك كان أغلب المحظوظين بالتعليم من أبناء الآغوات والقياد الموالين للاحتلال.

وتشير وثائق بحوزة المركز الوطني للأرشيف في الجزائر أنه حصل من الثانويات الجزائرية خلال الفترة الممتدة من 1881 إلى 1961 على شهادة البكالوريا 133230 طالب بينهم أوروبيون وجزائريون، لكن نسبة نجاح التلاميذ المسلمين لم تكن تتجاوز ثلاثة بالمائة بما يساوي أربعة ألاف ناجح خلال 80 سنة، وهو ما لا يتعدى ثلاثة بالمائة من العدد الكلي للناجحين.

ويشار إلى أن أول طالب جزائري اجتاز الامتحان وتحصل على شهادة البكالوريا كان سنة 1874 وهو سي محمد بن رحال الندرومي، وأول طالبة جزائرية تحصلت على البكالوريا هي علجية نورالدين بن علاق سنة 1936 لتصبح بذلك أول طبيبة جزائرية بعد تخرجها من الجامعة سنة 1946.

بعد الاستقلال

تشير الكتابات التي تطرقت إلى شهادة البكالوريا إلى أن امتحانها لم ينظم في وقته في العام الأول من استقلال الجزائر، والذي جرى في ظروف سياسة خاصة سواءً للمترشحين الجزائريين أو الفرنسيين، والذين بلغ عددهم 12500 طالب لكن لم يجتز الاختبار سوى ثلاثة آلاف طالب خلال الفترة الممتدة من 30 آب/أوت إلى 6 أيلول/سبتمبر من العام نفسه، نجح منهم 1200 كانوا معنيين بالالتحاق بأول سنة جامعية في عهد الجزائر المستقلة.

وفي 1963، وقعت الجزائر الدولة الحديثة مع فرنسا اتفاقية تقضي بالإبقاء على 8 ثانويات فرنسية في الجزائر واستحداث بكالوريا فرنسية جزائرية تضاف إليها مادتي اللغة العربية والتاريخ والجغرافيا الجزائر، وقد بلغ عدد الناجحين آنذاك 2352 طالب التحقوا بالجامعة الجزائرية، وكانت تلك الشهادة امتدادًا لما كان مطبقا قبل الاستقلال، وتتضمن امتحانًا تجريبيًا قبل الامتحان الرسمي للبكالويا.

وأعطت الجزائر المستقلة منذ عهد أول وزير للتربية الراحل عبد الرحمان بن حميدة حتى عهد الوزير الحالي عبد الحكيم بلعابد امتحان البكالوريا أهمية خاصة، فقد تم إصدار 18 مرسومًا وزاريًا تنفيذيًا يتعلق بهذا الامتحان المصيري، وكان التغيير في محتواه مع ثورة التعريب بداية السبعينيات التي أدرجت لغة الضاد ضمن مواد الامتحان وبكونها لغة الامتحان، مع الإبقاء على النسخة الفرنسية للامتحان، فسنة 1974 تم وضع بكالوريا معربة وأخرى مزدوجة اللغة.

وفي تلك الفترة كانت الامتحانات لا تخص كل المواد، فعلى سبيل المثال شعبة الآداب مستثناة من امتحاني الفيزياء والرياضيات ومترشحو العلوم الطبيعية لا يمتحنون في التاريخ والجغرافيا والرياضيات لا تتضمن امتحان العلوم والتاريخ والجغرافيا، وكان النجاح في البكالوريا بمعدل 9/20 والإنقاذ عند 7/20 على أن يكون المجموع مع المعدّلات الفصلية يصل حتى 9/20، كما تم بعدها إلغاء شعبة الفلسفة الإسلامية.

وفي 1979 في الدورة الثانية للجنة المركزية لحزب جبهة التحرير الحاكم تقرر التعريب الكلي لكل المنظومة التربوية للتخلص من اللمسة الاستعمارية الفرنسية، وتقرر جعل التربية الإسلامية مادة أساسية وإلزامية في جميع المستويات التعليمة.

وتوالت التغييرات على البكالوريا مع مرور السنوات ففي 1982، أدخلت مواد كتابية جديدة للامتحان، وفي 1988 استحدثت شعب العلوم الإسلامية والإعلام الآلي والكيمياء الصناعية، والعلوم الفلاحية والمحروقات والبناء والأشغال العمومية، ليصبح امتحان البكالوريا يضم 13 شعبة، مع رفع معدل الانتقال إلى 10/20.

تسريب الامتحانات

وفي 1994 بعد فضيحة تسريب الامتحان في 1992 ونسبة النجاح المتدنية في 1993 التي لم تتجاوز 11.9 بالمائة، تم إجراء تعديلات على امتحان البكالوريا الذي أصبح بسبع شعب هي الآداب والعلوم إنسانية واللغات الأجنبية والعلوم الشرعية والعلوم الدقيقة وعلوم الطبيعة والحياة  والعلوم التكنولوجية بثلاثة تخصصات الهندسة المدنية والكهربائية والميكانيكية، وألحقت بعدها تخصصات علوم التسيير والمحاسبة، لتأتي مع الألفية الثالثة الإصلاحات التي أتت بها لجنة علي بن زاغو فزادت وألغت بعض التخصصات، وبما أن هدفها كان يستهدف الهوية الوطنية تم إلغاء شعبة العلوم الشرعية، لكن مع الضجة التي أثيرت بعدها تم إقرار امتحان مادة التربية الإسلامية في البكالوريا لكل الشعب، كما أضيف امتحان اللغة الأمازيغية بعد الاعتراف بها لغة وطنية في الدستور ثم رسمية، لكن اختبارها يبقى حتى اليوم اختياريا.

ومع الألفية الجديدة تم حذف النجاح بالإنقاذ وأصبح معدل النجاح محددا عند 10/20، كما تم إجراء دورتين في البكالوريا عام 2001 بعد أحداث ما سمي "الربيع الأسود في 20 إبريل نيسان من العام ذاته وكذا في 2003 بالنسبة لولاية بومرداس بسبب زلزال 21 أيار/ماي من العام نفسه، كما تم في 2016 إجراء دورة استدراكية للمقصيين بالبكالوريا بسبب التأخّر.

فضائح وحسابات

بالنظر إلى أهميته التعليمية والسياسية، ظلّ امتحان البكالوريا لسنوات محل محاولات للتشويه عبر عمليات الغش والتشكيك في مصداقيته، ولعل أهم استهداف تعرض له، هو محاولة تسريب امتحاناته، والتي خرجت على العلن في مرتين جعلته حديث الرأي العام في البلاد.

وأول عملية تسريب حدثت في 1992 في ذروة الصراع القائم وقتها بين السلطة والتيار الديني ممثلا في حزب الجبهة الإسلامية المحل، حيث تم تسريب مواضيع امتحان البكالوريا عبر نطاق واسع في عهد وزير التربية علي بن محمد الذي كان يحسب على التيار الإسلامي رغم انتمائه إلى حزب جبهة التحرير الحاكم.

وقال بن محمد إن التسريب الذي حدث في عهده كان متعمدًا، وتقف وراءه جماعة ما يعرف بـ"حزب فرنسا" التي " كادت له وأرادت إخراجه من الباب الضيق بعد أن أبدى موقفه من توقيف المسار الانتخابي في حضرة رجال هذا التيار حينها منهم وزير الدفاع خالد نزار ورئيس الحكومة السابق سيد أحمد غزالي".

واضطر بن محمد وقتها للاستقالة بعد أن تأكد أنه "أصبح غير مرغوب فيه من قبل التيار التغريبي الذي كان مصرًا على عدم بقاء بن محمد المحسوب على المدافعين على المدرسة الجزائرية الأصيلة".

ولأن المدرسة في الجزائر كانت على الدوام محل صراع أيديولوجي، اختلف العقاب في 2016 لما حدث أكبر تسريب للامتحانات، حيث بقيت الوزيرة السابقة نورية بن غبريت في منصبها، وحينها أكد الوزير الأول الأسبق عبد المالك سلال المدان بالسجن في قضايا فساد أن بن غبريت ستبقى في منصبها بالرغم من الفضيحة التي حدثت في قطاع تشرف عليه.

الخوف من تكرار تسريبات الأسئلة يبقى هاجسًا يؤرق الحكومة التي تؤكّد في كل مرة أن البكالوريا لاتزال إلى اليوم محافظة على مصداقيتها.

ورغم أن هذه الفضائح لم تتكرر بسبب الإجراءات العقابية التي اتخذتها مرفقة بتقييد الوصول إلى مواقع التواصل الاجتماعي خلال فترة الامتحان وقطع الإنترنت، فإن الخوف من تكرار تسريبات الأسئلة يبقى هاجسًا يؤرق الحكومة التي تؤكّد في كل مرة أن البكالوريا لاتزال إلى اليوم محافظة على مصداقيتها وهيبتها رغم كل ما جرى.