01-مايو-2022
تشتهر مدينة بوفاريك ببيع حلوى الزلابية الخاصة بشهر رمضان (الصورة: Getty)

تشتهر مدينة بوفاريك بحلوى الزلابية الخاصة بشهر رمضان (الصورة: Getty)

يأتي صيام شهر رمضان الرّابع في ترتيب أركان الإسلام؛ بعد الشّهادتين والصّلاة والزّكاة، لكنّ مرتبته متقدّمة في أذهان ووجدان الطّبقات الشّعبيّة الجزائريّة قديمًا وحديثًا؛ وليس أدلَّ على ذلك من تسييده على الألسنة كأنّه كائن حيّ من لحم ودم وإحساس ولباس وأنفاس؛ فيُقال "جا سيدنا رمضان"؛ و"راح سيدنا رمضان"؛ و"نوجدو لسيدنا رمضان". بفرح في الأولى وحزن في الثّانية وشغف في الثّالثة. 

الكاتب الفرنسيّ غي دي موباسان في كتابه "رحلتي إلى بلاد الشّمس"،  قال إنّ الجزائريّين عربًا وأمازيغَ يتحوّلون في شهر رمضان إلى أشخاص عنيفين وموتورين، وقد يقتلون أيّ شخص يرونه ينتهك هذه الشّعيرة

كلّ ذلك مصحوب بطقوس باتت من صميم الثّقافة الشّعبيّة الجزائريّة، لا تحدث إلّا مع ضيف عزيز وذي مقام رفيع، منها شراء مواعين جديدة، وتجديد طلاء البيوت، فليس من الذّوق استقبال "سيدنا رمضان" بأغراض ومظاهر قديمة؛ أمّا ريتم التّبضّع وطبيعة الطّبخ؛ فيتغيّران تمامًا لصالح الوفرة والسّخاء والتّنويع. 

تقول الخالة حليمة، (73 سنة) إنّ الإعداد لاستقبال شهر رمضان في بيتها لا يختلف عن الإعداد لعرس عائليّ كبير، "كنّا في البيت القديم نجدّد طلاء البيت، كلّ عام، بالجبس الذّي كنّا نجلبه من هضبة خاصّه، فنضعه في النّار ثمّ نهرسه ثمّ نغربله ثمّ نخلطه بالماء مع الإكثار من اسم الله عليه ثمّ نطلي الجدران بأيدينا؛ أمّا بعد انتقالنا إلى بيت جديد مدهون بطريقة عصريّة، فقد أصبحنا نكتفي بتنظيفه سقفًا وجدرانًا وقاعةً وأبوابًا وشرفاتٍ وأثاثًا". 

وتنفي محدّثة "الترا جزائر" التّي تقاعدت من التّعليم أنّها تذكر كونها استعملت وأسرتها أغراض الأكل نفسها في المواسم الرّمضانيّة السّابقة؛ "نشتري سنويًّا صحونًا وقِدْرًا وملاعقَ جديدة؛ حتّى صرت أؤرّخ لأعمار أولادي وأحفادي بقدور رمضان". 

وتقول: "نرى في تجديد المواعين الرّمضانيّة بركةً، فنحن نطبخ فيها في الشّهور الأخرى للنّفساء وللمريض حتى يحصل لهما الشّفاء بسرعة. وللعرسان حتّى ينجبا بسرعة، وللأطفال المقبلين على المدرسة حتّى يكونوا نجباء".

من جهته، يعترف زوجها العمّ إسماعيل زرارقة (76 سنة)، بأنّه يحسب حساباتٍ كثيرةً، خلال الشّهور الأخرى، لتقسيم راتبه على أيّام الشّهر الواحد، حتّى لا يقع في "التشومير" أي الحاجة؛ "لكنّني في رمضان ألغي تلك الحسابات وأنخرط في التّبضّع بروح سخيّة إلى درجة أنّني ألجأ إلى الاستدانة أحيانًا. يعزّ عليّ أن تكون مائدة رمضان بطبق واحد". 

لقد كان أسلافنا؛ حسب الكاتب عبد العزيز غرمول، يتحدّثون عن رمضان بتعظيم لا مثيل له، ويعتبرونه ضيفًا عزيزًا يحتفون بزيارته، "يعدّون له أفضل ما عندهم من مأكل، وأطهر ما عندهم من ملبس، وأخشع ما في قلوبهم من إيمان، ويفتحون بيوتهم للصّائمين، ويجتمعون احترامًا له حول الموائد، ويستعيدون بفضله الجوّ العائليّ والاجتماعيّ الذّي لا تتيحه لهم أشهر الله الأخرى، وكانوا يقولون بإيمان صادق إنّ رمضان يأتي بخيره معه". 

ويستحضر صاحب رواية "زعيم الأقلّيّة السّاحقة" بكثير من الحنين "رمضان زمان"، فيقول: "كان أبي، وهو يُعِدُّنا نفسيًّا لشهر طويل من الصّيام، يتحدّث عن فضائله الإلهيّة كأنّه إنسان مرئيّ سيدخل البيت بعد لحظات وعلينا أن نكون في أتمّ الاستعداد له.
وأذكر أنّ أمّي كانت تتحدّث عنه كأنّه بالفعل إنسان من العائلة كان غائبًا ثمّ عاد، أو واحدًا من الأهل المكرّمين حلَّ ضيفًا عزيزًا.".

جعل هذا التّقديس لصيام شهر رمضان الجزائريّين يتسامحون مع المتساهلين مع الأركان الأخرى، منها الصّلاة التّي تعتبر عمود الدّين مثلما هو ثابت في النّصوص الصّحيحة، لكنّهم لا يتسامحون مع من "يأكل رمضان"، وينبذونه نبذًا قد يصل إلى عدم مصاهرته، عكس ما هو موجود في المشرق، حيث يسبق تقديسُ الصّلاة تقديسَ الصّيام، إذ يمكن أن نجد من يحافظ على الصّلاة، لكنّه لا يصوم من غير عذر شرعيّ.

ويقرأ أستاذ الفلسفة في جامعة قسنطينة إسماعيل مهنانة هذه الظّاهرة الاجتماعيّة الجزائريّة، في سياق علاقة الجزائريّ بالفرنسيّ، خلال الفترة الاستعماريّة، 1830 ـ 1962، فيذكر ما عرف بـ"وصيّة ألكسيس توكيل" مستشار الماريشال بوجو الذّي زار الجزائر في بدايات احتلالها، حيث قال إنّ سبب انحطاط المسلمين هو تعاليم محمّد نفسها، وإنّه لم يبق منها في الجزائر سوى صيام رمضان. وعلى المجتمع الأوروبيّ الجديد تحطيم تلك الشّعيرة إذا أراد البقاء في شمال أفريقيا".

كما أورد مهنانة ما كتبه الكاتب الفرنسيّ الشّهير غي دي موباسان في كتابه "رحلتي إلى بلاد الشّمس"، حيث قال إنّ الجزائريّين عربًا وأمازيغَ يتحوّلون في شهر رمضان إلى أشخاص عنيفين وموتورين. وقد يقتلون أيّ شخص يرونه ينتهك هذه الشّعيرة، وعلى الإدارة (الاستعماريّة) أن تفكّر في حلٍّ لهذه المشكلة الأمنيّة.

من هنا، يواصل صاحب كتاب "العرب ومسألة الاختلاف"، كان قانون الأهالي عام 1871 قد قسّم المجتمعات في الجزائر إلى ثلاثة مجتمعات هي الأهالي، اليهود، والأوربّيون، ومنه انفرط عقد التعايش الهشّ أصلًا. فكان الاوربّيّون يمعنون في إبراز نمط عيشهم كشرب الخمر علنًا في شرفات المقاهي، والتدخين بالنّسبة للنّساء الأوربّيات، خاصّةً في رمضان، وكردّة فعلٍ، اعتبر المسلمون كلّ من يقلّد الأوربّيين في طريقة عيشهم خائنًا ومستفزًّا لمشاعر طائفته، وهو ما بقي مستمرًّا حتّى اليوم، رغم انتفاء الخلية الأصليّة بخروج الفرنسيّين.

لكلّ مجتمع من المجتمعات حقائقُ اجتماعيّة وأنثروبولوجيّة وتاريخيّة تميّزها عن غيرها، منها العلاقة العميقة والحميمة للمجتمع الجزائريّ بشهر رمضان

لكلّ مجتمع من المجتمعات حقائقُ اجتماعيّة وأنثروبولوجيّة وتاريخيّة تميّزها عن غيرها، منها العلاقة العميقة والحميمة للمجتمع الجزائريّ بشهر رمضان الذّي بات حلوله في السّنوات الأخيرة مرهقًا لجيوب المواطنين، بسبب ارتفاع منسوب الجشع لدى قطاع واسع من التّجّار. وهو ما يتنافى مع طبيعة هذه العلاقة، ومع صفة الرّحمة التّي ترتبط بـ"سيدنا رمضان".