22-يونيو-2022

(الصورة: الخبر)

لم تعد فكرة الهجرة السرية سرًا يخفى على أحد أو يخافون الجهر به في الشارع، حيث أثارت تصريحات أحد التلاميذ المرشّحين لشهادة الباكالوريا لوسائل إعلامية انتباه كثيرين، إذ خالف قاعدة التلاميذ التواقين لنيل شهادة الباكالوريا لتحقيق حلمهم في الدراسات العليا، قائلًا إن حلمه ليس الجامعة ولا أيّ تخصص ولكن هدفه هو تدبّر المال لـ"يحرق في بوطي"،  أي يهاجر سرًا في أحد القوارب.

يظلّ ركوب البحر دون وِجهة محدّدة بواسطة  "البوطي" أو القارب الذي يستعمل كوسيلة نقل من سواحل الجزائر إلى ساحل إيطاليا أو إسبانيا مغامرة "جنونية"

ففي وقت كان التلاميذ يعبّرون عن رغبتهم في النجاح وتحصيل معدّلات جيّدة لبلوغ تخصّصاتهم في الجامعة، وإسعاد عائلاتهم، بدا هذا التلميذ واثقًا مما يقوله ومصر على الهجرة السرية، ويعلن ذلك أمام الكاميرات دون خوف من أحد، مخالفًا رأي كثيرين للاختبارات على مدار فترة اجتياز امتحان مصيري.

طالعتنا في قناة محلية جزائريةوهي تستطلع آراء المرشحين للباكالوريا في اليوم الخامس والأخير من الامتحانات، تصريحات لتلميذ في السنة الثالثة ثانوي، اجتاز الباكالوريا، إذ وجّه له مندوب القناة سؤالًا حول طبيعة أسئلة الامتحان في يومه الأخير، فقال التلميذ بثقة كبيرة:" كارتونيت" أي اشتغلت جيّدًا في اللّغات، وهذا ما يُفهَم أن التلميذ مُولع باللّغات الأجنبية وهو سعيد بذلك المنجز المحقق حسب تعبيره.

 

مؤلم، محزن، مؤسف! من حق إخواننا وأخواتنا الهجرة لأي وجهة أرادوها، لكن بعيدا عن قوارب الموت.. غالبا ما خلّفت جروحا لا تندمل

Posted by Youcef Zaghba on Thursday, June 16, 2022

لحدّ اللحظة كل شيء جميل، إذ يخرج التلميذ من قاعة الامتحان والفرحة تعلو وجهه، إذ اجتاز الامتحانات المؤهّلة للتقييم في شهادة مصيرية هي الباكالوريا، لقيمتها العلمية من جهة وباعتبارها عقبة المرور نحو الجامعة وتحقيق الأحلام والتفرغ بعدها للدراسات العليا، غير أن المفاجأة التي حدثت مع هذا التلميذ أنه عندما ردّ على سؤال الصحفي عن أمنيته بعد تحقيق النجاح ونيل الشهادة والتخصص الذي يهوى أن يدرسه أو هو في مضمار شغفه ردّ بكل ثقة وصدق:" لا أريد الدخول للجامعة".

نزعة الهجرة السرية لدى مختلف فئات المجتمع الجزائري، مؤشّر على حالة من اليأس العميقة، كما ذكر أستاذ علم الاجتماع السياسي ناصر جابي، إذ لفت فيي تدوينة على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك إلى أن هناك "رغبة من لدن كلّ الأعمار لمغادرة البلد، حتّى وهم يغامرون بحياتهم، وذلك ما يعكس –حسبه-  حالة اليأس الذي يعيشه الجزائريون".

 

هذه النزعة لدى الجزائريين (ة) من كل الاعمار،لمغادرة البلد حتى وهم يغامرون بحياتهم . تعكس حالة يأس عميقة لايحس بها إلا من عاشها.

Posted by Nacer Djabi on Saturday, June 4, 2022

مجازفة

يظلّ ركوب البحر دون وِجهة محدّدة عبر "البوطي" أو القارب الذي يستعمل كوسيلة نقل من سواحل الجزائر إلى ساحل إيطاليا أو إسبانيا مغامرة "جنونية" لشباب حالم يسهل اقتياده نحو الجنة الموعودة، فهي رحلة غير محمودة العواقب أو غير معروفة المحطّات، وغالبًا ما تكون نهايتها مأساوية.

وفي هذا المضمار يرفض الإعلامي عبد الحميد عثماني، ربط "الحرقة" لدى شباب لم يتجاوز سنّ العشرين بالأفق المسدود وليس مردّها اليأس، قائلًا لـ" الترا جزائر" إن الظاهرة في جانب منها هي أحد تجليات الانفتاح التكنولوجي الرّقمي على العالم التي غرست الأحلام الوردية في تفكير الشباب".

ومن هذا المنظور، يتّفق البعض على أنه الأفق مسدود من وجهة نظر ذلك التلميذ-الشّاب الذي لا يعرف عن المستقبل سوى "بطالة ما بعد الجامعة"، وجيرانه البطالون أو ما يطلق عليهم بـ" الحيطيست" على حدّ التعبير الشعبي؛ أي من يقبعون صباحًا مساءً أمام جدران العمارات بلا عمل ولا اشتغال".

في مقابل ذلك، طرح كريم غربي وهو شاب في الثلاثينات من العمر متخّرج من كلية العلوم القانونية بجامعة بن عكنون بالعاصمة الجزائرية، سؤالًا حول من يدفعون ما يقارب مليون دينار جزائري أي ما يقارب خمسة آلاف يورو لصاحب القارب الذي يقلهم إلى الضفة الجنوبية للبحر المتوسط بطريقة غير شرعية.

وأضاف غربي لـ "الترا جزائر" أن كثيرين ممن غامروا برمي أنفسهم في البحر رجعوا للبلد جثثًا هامدة وهناك من لم يعثر عليهم لحدّ الآن، في حين من حالفهم الحظّ بالوصول إلى بلد أوروبي وجدوا أنفسهم مضطرين بالعمل في حقول العنب والطماطم بأثمان زهيدة بعين على العيش وعين أخرى على الشرطة التي تطاردهم في كلّ مكان، على حدّ قوله.

من زاوية أخرى، كيف يمكن إقناع هذا الشاب الذي جمع المال من أجل الهجرة السرية والمبلغ ليس باليسير بأنه المبلغ نفسه الذي يمكنه من فتح مشروع في الجزائر؟ وهي عملية صعبة خصوصًا للشّباب الحالم بالجنّة في مكان ما في هذا العالم.

صائفة حارِقة

تعيد هذه التصريحات البحث في قصص كثيرين ممن كانت آمالهم معلّقة بالجامعات والنجاح والحصول على الشهادات العليا، إذ لا يمكن غضّ الطرف عن قصة الـ 22 ألف شابًا من الحاصلين على شهادة الدكتوراه من البطالين، وانعدام أفق التوظيف قريبًا بالنسبة لهم.

قصّة عمرها الآن ما يربو عن ربع قرن من الزّمن، عند حصول ثلاثة طلبة جامعيين على مِنحة استكمال الدراسة في سلك الماجستير خارج الجزائر، ووعدت الهيئة الممثّلة على تشكيل ملفّات المعنيين وتصديقها في جميع الدوائر الرّسمية لتكون بذلك  مطابقة لمختلف الاتفاقيات بين الجامعات الجزائرية والخارجية، لتكتشف إحدى الطالبات أن منحتها "طارت ولا أثر لها"، إذ لم يعثر على ملفّها في وزارة التعليم العالي رغم وعود التسوية وأن الخطأ إداري فقط، إذ لم يرِد اسمها إطلاقًا من الجامعة المعنية كونه احتلّت المرتبة الثانية في دفعتها في مصاف الليسانس.

احترق قلب الطالبة، كما احترق وجهها من الشّمس اللاّفحة في شهري تموز/جويلية وآب/أوت من عام 1998، إذ ظلّت تلهث كل يوم من إدارة إلى أخرى، تستمع لتفاصيل لم تستوعبها طيلة تلك الفترة الصيفية إلى غاية بدايات شهر أيلول/سبتمبر، احترق وجهها وهزل جسدها وهي أصلا مُقيمة في حيّ جامعي خاصّ بالطالبات، إذ غالبًا ما يبقى مفتوحًا لإقامة طلبة الطب أو الطلبة الذين يعدون رسائلهم الجامعية سواء الماجستير أو الدكتوراه فقط، فيما أرغمها هذا الظَّرف على أن تتنقّل بين غرفة وأخرى، وتقتات على وجبة واحدة لضيق حالها وبُعدها عن مسقط رأسها، على أمل أن تسترجع حقّها من تلك المنحة.

انتهت قصة الطالبة بأن عادت أدراجها إلى بيتها العائلي في سبتمبر/أيلول 1998 فارغة اليدين، ففرحتها لم تتمّ، بعد أن اكتشفت أن مِنحتها ذهبت لأحدهم وهو زميل لها في الدراسة لم ينل حتى درجة مشرّفة ليكون في المراتب العشرة الأولى.

هذه الحقيقة حملت هذه الطالبة (م. ز) لطرق جميع الأبواب للعمل ومواصلة دراسات الماجستير في الجامعة التي تنتسب إليها، والرّضوخ للأمر الواقع، رغم أنها تثاقلت في التسجيل والعثور على مشرِف على رسالتها العلمية، إذ فقدت معها لهفة العلم وشغف البحث، ولم تنسها الأيام أن ظروفها الاجتماعية جعلتها تستكين للحقيقة وتتناسى مطالبتها بحقّها.

في المقابل من ذلك لم تنسَ أن الجامعة حرمتها من فرحة المنحة ثلاث مرّات: الأولى عندما أعلنوا نتائج الفائزين، أما الثانية فعندما اكتشفت اسم الشخص الذي أخذ مكانها وكما قال "لقد أخذ المِنَحة وترك لي المِحْنَة"، بينما الثّالثة عندما لم تعثُر على مِنحتها الخاصة بسنوات الدكتوراه.

ثمن العُمر

الأيام تداوي الجراح لكنها وللأسف تترك الكثير من النّدوب وربما تترك بعض الخدوش المؤلمة لحدّ اللّحظة، فبعد تلك الحادثة، رجعت الطالبة للجامعة مرة أخرى ولكن بعد سنوات من إنهائه للماجستير لتعيد التسجيل في سلك "دكتوراه علوم"، وقد بلغت من العمر وقتها 38 سنة، رغم غيابها الطويل عن قاعات الدروس، إلا أنها تدرّبت كثيرًا على المِنهجية وإيجاد فكرة الأطروحة، وتقديم مشروعها للّجنة العلمية، ثم الموافقة عليه من أعضائها، ثم مباشرته مع المشرف الرئيسي في إعداد فصول الخطة والاشتغال عليها ليل نهار، وبالفعل استكملت الأطروحة من جيبها الخاصّ، ودون مِنحة ولا دينار من الدّولة الجزائرية وفي ظرف قياسي، ثم مناقشتها بتقدير جيد جدًا.

 

🔸قدمت إستقالتي من التعليم الثانوي في ولاية تيارت عام 2014 بعد تصدري لقائمة الناجحين في مسابقة التوظيف بولايتي.. 🔸أضعت فرصة التوظيف في إدارة جامعة ابن خلدون سنة 2015 ... #كل هذا من أجل التفرغ لأطروحة الدكتوراه -التي نجحت في إمتحانها الوطني بجدارة واستحقاق و كان ذلك بناء على إحتياجات جامعة وهران لمناصب مالية للأساتذة 🔸قمت بالتدريس مجانا في مختلف المؤسسات الجامعية لمدة 8 سنوات منذ كنت طالبا للدكتوراه الى يومنا هذا.. 🔸رفضت الهجرة إلى ألمانيا وفرنسا .. 🔸قضيت 10 سنوات في الدراسة والتكوين متحديا كل الظروف القاسية حتى تحصلت على أعلى شهادة جامعية يمكن أن تمنحها الدولة! #و عرفانا بالجهود يتم مكافأتنا بالتشرد والضياع والوحدة.. لا سكن، لا زواج، لا وظيفة محترمة تتناسب وطموحاتنا ورغباتنا.. وليتم تجميد مناصبنا بالجامعة باسم سياسة التقشف والتهميش والوعود الكاذبة والتسويف! حتى هرمنا من الانتظار والاحتجاجات..! 🔴 لذا لم يبق لنا الحل إلا في النضال السلمي حتى افتكاك حقوقنا. هذه بعض الشعارات التي حضرتها للمشاركة في وقفة الكرامة بميدان الشرف هذا الاثنين 9 ماي أمام مبنى وزارة التعليم العالي والبحث العلمي بالعاصمة! #النخبة_الجزائرية_تنتفض⁦🇩🇿⁩ #التوظيف_المباشر_لحاملي_شهادة_الماجيستير_والدكتوراه_حق_مشروع

Posted by Amari Ayoub on Saturday, May 7, 2022

حِكاية هذه الطالبة لم تنته هنا فقط، إذ صارت اليوم رقم آخر يضاف إلى أرقام الدكاترة البطالين وهي اليوم ضمن فريق يناضل من أجل الحصول على حقّ التوظيف المباشر لأصحاب الشهادات العليا في الجامعات، رغم كونها موظّف في مؤسّسة خاصّة، لكنّها تردِّد دوما: "ما ضاع حقّ وراءه مناضل وطالب".

يرفع كثيرون راية الأمل بوجود خيارات أفضل في الجزائر، ومطالب مكونات مختلفة لإنقاذ أجيال يرى في الهجرة حلًا له

حرقتان ومصير واحد

 بين حرقة البحر وحرقة الحقّ خطان متوازيان لكنهما يلتقيان: تلميذ تقدّم لنيل شهادة الباكالوريا والهدف مرسوم في ذهنه ولو عبر قارب الموت، وطالبة سقطت مرات ونهضت مرة لتكمل مشوارها الجامعي لتجد نهاية الجهد طريق مسدود لحدّ اللّحظة. في مقابل ذلك، يرفع كثيرون راية الأمل بوجود خيارات أفضل في الجزائر، ومطالب مكونات مختلفة من المجتمع تصدح بضرورة تحرك رسمي لإيقاف نزيف جيل يرى في الهروب حلّ لأزمة البطالة والفقر.