16-يونيو-2022

(كاترينا إيقلو/GETTY)

يتأخّر كثير من طلبة الدكتوراه في الجزائر عن مناقشة أطروحاتهم لسنوات بسبب شروط صعبة وضعتها وزارة التعليم العالي أبرزها نشر مقال علمي في إحدى المجلّات الأكاديمية المصنّفة، والتي قد تصدر مرتين في السنة، في ظلّ وجود منافسة مع أستاذة جامعيين موظّفين يبحثون عن الترقية والحصول على درجات علمية من خلال النشر في هذه المجلات.

في هذا السياق، ورد في الصفحة الرسمية للباحثين "المنّصة الجزائرية للمجلات العلمية" تعليق  لفت انتباه الباحثين مفاده: "لسلامة صحتكم العقلية والنّفسية، إياكم أن تجمعوا بين: البحث العلمي ومواصلة إنجاز أطروحة الدكتوراه والمقال العلمي المفروض من أجل مناقشتها، والزواج وإنجاب أطفال".

لماذا اشترطت وزارة التعليم العالي المقال العلمي لمناقشة أطروحة الدكتوراه في مقابل الصعوبات البروقراطية التي يجدها الباحثون من أجل النشر؟

الأستاذ قاسمي، وافق بشدّة هذه النصيحة التي لم تأت من فراغ على حدّ تعبيره؛ بل من تجربة سابقة لصاحبتها، قائلًا بأنه باشر التّدريس في عديد الكليات التي تحتاج إلى أساتذة مؤقّتين، دون أن يستفيد من التوظيف لدواعي قانونية وإدارية يفرضها قانون توظيف الأساتذة في الجامعات الجزائرية.

غير أنه قبل سبع سنوات كان يعتقد حسب تصريحه لـ "الترا جزائر" أن التّدريس هو ميزة ولو مؤقتًا، موازاة مع مواصلة إنجاز الأطروحة، إذ سيعطيه "مناعة بيداغوجية وتدريبًا يوميًا مع المحاضرات والتجارب الرياضية واستمرارية علاقته بالبحث والطلبة والجوّ العام في الجامعة".

لكن ما وقع مع أستاذ الرياضيات كان قاسيًا جدًا وجعله يتحسّر على سنوات ضاعت من حياته دون جدوى، موضحًا: "اصطدمت بواقع اسمه قانون إنجاز مقال علمي ينشر في مجلة علمية مصنّفة حسب قوائم المجلات المصنفة في موقع وزارة التعليم العالي والبحث العلمي والضرورة أن تكون من صنف ( أ) أو(ب)".

هذا التصنيف جعله يسقط في بئر ولا يخرج منه، على حدّ قوله، مضيفً أنه خاض صراعًا مريرًا مع إنجاز مقال علمي محكّم وأصيل لكنه، تطلب مني جهد سنتين، في الإنجاز وانتظار التحكيم والنشر، فيما توقفت عن إنجاز الدكتوراه فترة الاهتمام بالمقال العلمي، لأعود إليها مرة أخرى لكن مع مرور الوقت والأشهر وانتهاء فرصة التمديد لمواصلة الدراسات العليا للسنة السادسة اصطدمت مرة أخرى بانتهاء السنّ القانوني لعمر الأطروحة، وكلّ ذلك والمقال لم ينشر، وهو من أهم شروط مناقشة الأطروحة".

قطعة عذاب

يذكر كثيرون أن المقال العلمي فرصة لتحسين آداء الطالب في مصاف سلك الدكتوراه، إذ يؤهّله لأن يكون باحثًا في مجال تخصّصه، خاصة خلال السنوات الأولى لتحضير إنجاز الدكتوراه، وجزء تدريبي من أجل تمكينه من إنجازه عن جدارة واستحقاق.

في السياق نفسه، يتعذّر على المجلّات العلمية الموجودة والمصنفة في موقع الوزارة أن تستقبل كل فترة عشرات المقالات العلمية، فليس بإمكان المجلاّت أن تستوعب الكمّ الهائل من المقالات التي تصلها من قِبَل الباحثين إن تمّ تعداد طلبة الدكتوراه إضافة إلى الأساتذة الجامعيين الذين يبادرون أيضًا بالنشر لأجل دواعٍ إدارية وتسوية ملفاتهم من أجل مرتبة التأهيل الجامعي وغيرها من الترقيات العلمية المطلوبة.

ترك البعض إنجاز أطروحاتهم ووضعوها جانبًا، وهذا بغية التفرّغ لعدة أشهر من إنجاز مقال أو مقالين أو حتى ثلاثة، بهدف تجريب حظهم مع عدد من المجلات العلمية، كما فعلت سمية قسوم (29سنة) من جامعة العلوم الإنسانية والاجتماعية بجامعة البليدة، إذ كشفت لـ"الترا جزائر" أنها فشلت بالظفر بمجلة تقبل مقالها العلمي في تخصّص العلوم القانونية، وهي في انتظار "وعد بالنّشر" لتباشر عملية إيداع الأطروحة.

وفي هذا الصدد قالت قسّوم إنها سئمت الانتظار، فكثير من المجلات لا تردّ على الطلبة بجواز المقال أم لا من الناحية الإجرائية، أو بالردّ على الباحثين إن كانت المادة العلمية المرسلة قابلة للنشر مباشرة أو تحتاج إلى تعديلات، فضلًا عن طول الانتظار لمدة قد تصل إلى سنة ريثما يلقى الباحث الردّ.

سنة إنجاز وماذا بعد؟

عملية مُضنية، هي تلك التي يقضيها الباحثون من طلبة الدكتوراه في شتى التخصّصات في الجزائر، لبناء ورقات البحث التي ترسل للمجلات المصنّفة، إذ يتطلّب المقال العلمي سنة كاملة ما بين الإنجاز والعرض على لجنة تحكيمية وإدارة تحرير المجلّة المعنية، غير أن المشكل الأكبر الذي يواجه الطلبة الباحثين، التوقيت الذي تعتمده المجلّات، إذ أن أغلبها يفتح موقِع الاستقبال مرتين في السنة، أي فترة قبول المقالات، وهو ما يعني أن النّشر سيكون من نصيب قلّة قليلة ولن يتم في السنة نفسها التي تم إرسال ذلك المقال.

هذه المسألة الأكاديمية، باتت تؤرق العشرات بل الآلاف من طلبة الدكتوراه، إذ يطرح اليوم الكثيرون سؤالًا مفاده: "لماذا الوزارة جعلت المقال العلمي شرطًا من شروط مناقشة الأطروحة، في مقابل الصعوبات التي يجدها الباحثون من أجل النشر؟".

في الميدان، يكرّم الطالب أو يطلب منه تصحيح المقال وتنقيحه، فالمجلّات على طبيعتها تقوم بإرشاد الباحثين إلى مكامن التعديلات والأخطاء والأمر لدى الكثيرين "طبيعي" إذ يمكن أن يعيد الباحث تعديل مقاله تبعًا للنصائح والقراءات التي أجراها أساتذة مقتدرون، ووفق تلك التعديلات يكون أخيرًا صالحًا للنشر مع وضع علامة تاريخ الاستلام وتاريخ النشر.

رزنامة البحث

أغلبية من مروا على هذه التجربة الصعبة يرون بأنه على طالب الدكتوراه أن يضع رزنامة وقتية لإنجاز مقال علمي في السنتين الأولى والثانية، تتوافق مع فكرة مشروعه البحثي الخاص بأطروحة الدكتوراه، ومنه يتمّ تسهيل عمله الملزم به في انتظار نشر مقال يكاد أن يكون أكبر من منجز الأطروحة في حدّ ذاته.

يعتبر أستاذ علم النفس التربوي عبد الكريم حيمور من جامعة قسنطينة المقال هو بحث علمي له التمشي نفسه الذي يسلكه الطالب في إنجاز أطروحته، يعتمد فيه منهجية علمية ويطرح تساؤلات مبنية على واقعه البحثي ويحاول فيها صياغته بشكل يجمع فيه بين الأسلوب الأكاديمي والعلمي ويتوصل فيه لنتائج تمكنه من توسيع نظرته البحثية حيال إنجاز أطروحة كاملة وبحوث قادمة.

باختصار يرى الأستاذ حيمور، أن المقال هو تدريب على الكتابة العلمية،ومن خلاله يعري الطالب الباحث " غروره العلمي ويواجه عثراته التي لم تنكشف دون تجربة كتابة بحث علمي لا تتجاوز عدد صفحاته العشرين، كما يكتشف حقيقة البحث ويتمكّن شيئًا فشيئًا من أدوات إنجازه".

أما من الناحية الإجرائية وقوانين النّشر، قال محدِّث " الترا جزائر" إن هناك عقبات فعلية أمام الباحثين من طلبة الدكتوراه، وهي من تقصي شغفهم العلمي، وتضعهم أمام مقاومة شرسة وصراع يومي بين خماسية الضغط اليومي: أولاها إنجاز الأطروحة والتقدّم في فصولها، ثانيا التقدّم للمشاركة في المؤتمرات لتحصيل نقاط هي الأخرى من شروط مناقشة الأطروحة، إضافة إلى إنجاز ونشر مقال علمي ثالثًا، أما رابعًا فيتعلق بالبدء في التدريس لأنها المساعدة على التوظيف بعد التخرج، لتأتي الأمور الاجتماعية والعائلية خامسًا.

 وهم الواقع

ووفق حديث الأستاذ فإن النصيحة أعلاه في محلّها، فأغلب المجتهدين في المجال الأكاديمي، لم يتمكنوا من إتمام أطروحاتهم دون تقديم تنازلات "خطيرة" كما وصفتها صفية بن لحمر في حديثها لـ "الترا جزائر"، إذ توقفت عن إنجاز الأطروحة وتوجهت للتدريس في الابتدائي حماية لنفسها ولأسرتها المكوّنة من أربعة أطفال من متاهة البحث العلمي وشروطه التعجيزية " حسب تعبيرها.

سمية قسوم: كثير من المجلات لا تردّ على الطلبة بجواز المقال أم لا من الناحية الإجرائية

فيما ينتظر أكثر من ثلاثة آلاف طالب باحث دكتوراه تسوية ملفاتهم البيداغوجية، أجزم البعض أنه لا يمكن الجمع بين ثلاثة أعمال: البحث العلمي، العمل، والأسرة وتربية الأطفال، قاعدة توصل إليها الكثيرون، بل وأكثر من ذلك، فالبعض يعترف بأنه مقصر في جانب من تلك الجوانب وهو ما يجعل من البحث العلمي حسب تعبير عمار بلعالية: "بحر هائج لا يليق به إلا سباح ماهر"، فيما يصف البعض هذه المعادلة بـ "الصعبة" خصوصًا إذا سلمنا بأنّ العلم له قواعده كما البحث العلمي له جزئياته التي لا تستقيم دون بيئة ترعاه.