23-يونيو-2022
في مدرسة بالعاصمة الجزائرية (تصوير: رياض قرامدي/أ.ف.ب)

في مدرسة بالعاصمة الجزائرية (تصوير: رياض قرامدي/أ.ف.ب)

تحوّل إثارة موضوع اللّغة في الجزائر إلى مسرح للنّقاش تارة والاختلاف الذي يصل حدّ الصراع تارة أخرى، إذ خلق قرار مجلس الوزراء الأخير حيال اعتماد تدريس اللّغة الإنجليزية في المرحلة الابتدائية جدلًا بين مختلف الفئات وخاصة على مستوى النّخبة التعليمية، في مقابل تناقض أطروحات البعض لمخرج لغوي تعليمي برؤية استراتيجية وكمنهج يضمن السّلامة اللغوية للأجيال ويقلّص الفجوة بينهم.

مسعود عمراوي: سبق لوزير التربية الوطنية السابق علي بن محمد أن أقرّ في سنة 1990 تعلم اللغة الإنجليزية في الابتدائي غير أنه واجه عصى غليظة من "التيار الفرنكوفيلي في الجزائر وتم وأد القرار قبل أن يولد

التلاميذ ضحايا

في الواقع يشتكِي المعلِّم من حالة عدم تمكّن التلاميذ من اللغات، وبعبارة أخرى؛ "التلميذ الجزائري لا يتقن أيّة لغة سواءً أكانت العربية أو الفرنسية أو الإنجليزية وحتّى لغات أخرى"، هي حقيقة طرحتها الأستاذة فريدة سوامي من المدرسة العليا للأساتذة ببوزريعة بأعالي العاصمة الجزائرية، قائلة "هذا واقع وجب تشريحه لا تجاوزه، فنحن لا نتقن أيّة لغة حتى اللغة الأم بالمفهوم أنها اللغة الوطنية المقدمة على اللغات الأخرى"، ويقصد بذلك بحسب الدستور اللغة الأم هي العربية والأمازيغية.

وأضافت المتحدثة، في هذا المضمار من خلال ممارستها لمهنة التعليم لما يربو عن ثلاثين سنة، بأنه وجب معالجة هذه المسألة جديًا بتصويب العمل على "خانة الرّصيد اللّغوي للطفل –التّلميذ، فهناك معيقات في تحصيل الملَكَة اللّغوية التي لا تتمحور حول " صعوبة تعلم القواعد النحوية، بل تتعداها في عدم استجابة المادة اللغوية التي يجدها التلميذ في نصوص الدرس اللغوي وغيرها لما يتطلبه التعليم المفيد".

في السياق نفسه، وإن كان الحكم  على مستوى اللغات لدى التلاميذ الجزائريين في شيء من التعميم ، إلا أنه يبقى نسبيًا، رغم أن الواقع في الجزائر يقترب من هذه الحقيقة، ويبرز ذلك عند كثير من الطلبة الجامعيين في مذراتهم وأوراق إجباتهم ومراسلاتهم بحسب متابعين.

مواد فوق المستوى 

بين اللغة الوطنية واللغات الأجنبية فضلًا عن العامية واللهجات، يلفت عارفون بخبايا التعليم ومواكبته لعشريات من الزمن إلى سلبيات تجعل من تعلم اللغة في الجزائر حالة "مشتتة تارة وعرجاء تارة أخرى"، بسبب تكثيف للمواد في ذهن المتعلم فتختلط عليه المواد الضرورية والكمالية –الثانوية وهي المواد التي تفوق مستواه الذهني والعمري والنفسي.

هل هذا هو الإشكال الحقيقي؟ أم أن هناك فجوة حقيقية بين اللّغات في الجزائر؟ إذ اعتبر البعض أننا نعيش في مجتمعين أو ثلاثة بسبب اللغة، بين العربية والأمازيغية ثم الفرنسية والآن الإنجليزية، وهو موضوع وجب الانتباه له، إذ هناك فرق شاسع بين تعلم اللغة الأساسية وتعلم لغة في الدراسة للاستعمال العلمي والمهني.

تعترف الأستاذة أم الخير تومي من جامعة وهران غرب الجزائر في أطروحتها العلمية حول الهوية واللغة، أن هناك انقسامًا بين الرؤى فيما تعلق باللغة مرده الاستعمار الذي حاول طمس الثقافة الوطنية والتشكيك فيها، بحجة أن "اللغة العربية ميّتة".

وتطرقت أستاذة علم الاجتماع إلى أن تعدد اللغات في الجزائر ترك تأثيرات سلبية من حيث الانفصام اللغوي، أي أن الإدارة تكتب بالفرنسية وتقرأ بالعربية، أو العكس، رغم مختلف المحاولات التي عرفتها بعض المؤسّسات لتعميم اللغة العربية في المخرجات الإدارية إلا أن ذلك لم يؤت أكله على المستوى التعليمي الدراسي، إذ وصف أستاذ اللغة العربية عبد الكريم موساوي ذلك بقوله:" لدينا لغة عرجاء يمارس عليها يوميًا الإجحاف بسبب مدخلات المدارس الابتدائية وعدم الاهتمام بها كليًا، لتكون اللغات الأخرى ثانوية".

وللاطّلاع على الفرق بين اللّغة الحية واللغة الميتة، قال موساوي لـ" الترا جزائر" أولًا علينا نتفق على المبدأ ماهي اللغة الأم، أو اللغة الواجب تعلمها جيدًا لأنها تربطك بهويتك وأرضك، بصرف النظر عن اللغات الميتة والحية الأخرى، فاللغة الفرنسية مثلًا لا تستعمل في العالم إلا بنسبة لا تتجاوز ثلاثة في المائة.

وقال إنه من الأجدر أن نذهب رويدًا رويدًا نحو تعلم اللّغات الحية، التي وجب أن نرى أثرها في المخرجات العلمية في الجامعات ثم لها دور في التنمية والاقتصاد. 

أقسام نموذجية

في كلّ المشاريع المتعلقة بمسألة جوهرية مثل قطاع التربية والتعليم والجامعات، ينبه المهتمون بهذه القطاعات إلى أنها حقول وجب معرفة التربة التي تزرع فيها مختلف القرارات والإصلاحات والتغييرات أيضًا، والاعتناء بها حتى تنمو وتزهر، إذ يعتبر حسبهم تغيير مادة بمادة أو لغة بلغة أو إضافة مادة أو لغة هو أشبه تغيير دفّة القيادة في بحر هائج من جهة إلى أخرى معاكسة تماما للأولى.

من خلال هذا المنظور، يرى البعض أن فرض اللغة الإنجليزية بات مشروعًا عمره الآن 22 سنة، أي منذ لجنة الإصلاح التربوي التي أعلنها الرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة منذ السنة الأولى من اعتلاءه سدة الحكم.

وفي هذا السياق اقترح الأستاذ السعيد دمبري العضو الاتحاد الوطني لعمال التربية والتكوين تطبيق تعليم الإنجليزية تدريجيًا والبداية حسبه تكون عبر أقسام نموذجية، مضيفا لـ" الترا جزائر " أنه من الأجدر إقرار تنفيذ دورات مكثّفة وورشات لتكوين المتخرجين في الإنجليزية الموجهة للتعليم الابتدائي".

وهنا طرح المتحدث مسألة " براغماتية القرار" أي أنه نابع من وظيفيته في الميدان، في مسعى يتخذ بعدًا علميًا مرتبطًا بمواكبة التطورات العلمية الحاصلة في العالم، لأن اللغة الانجليزية تؤهل التلميذ او الطالب للانفتاح على العالم أكثر.

لكن رغم إيجابيات القرار وأهدافه المسطّرة من قبل السّلطات العليا في البلاد، إلا أن البعض يتحفّظون على الخطوة من زاوية كونها ستشكِّل فجوة أخرى أو أنها ستوسّع الهوة فيما بسبب التعدّد اللغوي، وهو ما يفيد بأن أيّة خطوة وجب أن تكون مدروسة وصارمة وهادفة.

الأمن اللّغوي

يتحدث أخصائيون في اللغة والتعليم عن "الأمن اللغوي" وهو الذي يغيب في منظور الفاعل السياسي (الحكومة) والفاعل التربوي (وزارة التربية والنقابات التعليمية)، دون الإحاطة بهذا التفصيل المهمّ، إذ يطرح البعض مسألة جوهرية تتعلق بتأمين اللسان الجزائري من انفلات سبق لعديد البلدان أن أحاطته بالعناية بالمحافظة على اللغة الأم والحفاظ على سلامة لسان شعوبها وتقويمه بالتدرب على النطق الفصيح والبليغ والممارسة، لتأتي كلّ اللغات المعتمدة في مجال التعليم المكمل المفيد للعلم والتنمية والاقتصاد.

وطالب البعض الانعتاق من لغة المستعمر على حدّ تعبير الباحث الجامعي فريد علاونة من جامعة بومرداس شرق العاصمة الجزائرية لافتًا إلى أن الإنجليزية "وجب أن تكون بديلًا عن الفرنسية وهذا أفضل والاستثمار في أساتذة الفرنسية إذا كانت ستطرح مشكل مناصب الفرنسية".

وأضاف لعلاونة في حديث لـ" الترا جزائر" أنه إذا تقرّر أن تكون اللغة الإنجليزية مع الفرنسية في المستوى نفسه أو الإطار نفسه، فمن الأجدر أن تكون على حساب الحيّز الزمني المحدّد للفرنسية ولا تقترب من مساحة العربية".

القوة في اللّغة

على خلاف ما سبق، إذا كان تعميم اللغة الإنجليزية بداعي التخلي عن لغة المستعمر، فوجب التخلص من الكثير من الأشياء في حقل التربية والتعليم سواءً في الأطوار الابتدائية والثانوية والجامعية أيضًا.

ومن هذا المنظور، يرى الأستاذ الجامعي عبد الرزاق بن عمرة من كلية الاقتصاد بجامعة سطيف، أن الأكثر أهمية من تعميم اللغة الإنجليزية في الابتدائي هو التخلي أولا عن. نظام التعليم العالي المنخفض السنوات التدريس أو ما يسمى بنظام الـ( ل م د ) الذي "يعتبر نظام فرنسي وتم تطبيقه سياسيا ولم ينجح في بلدنا" حدّ وصفه.

ودافع الأستاذ بن عمرة على تركيز اللغة العربية في الجزائر، مؤكدًا لـ" الترا جزائر" اللغة التي يجب أن تعمم هي اللغة العربية باعتبارها لغة وطنية فلو درست العلوم الطبية والتقنية بالعربية كان استيعابها جيد بالنسبة للطلبة ولا يبذلون جهدًا كبيرًا في الفهم والاستيعاب بما أنه توجد ترجمة علمية.

ودعا في هذا السياق إلى "التركيز على كيفية تعميم لغتنا العربية عالميا من خلال إنتاج بحوث علمية جيدة وترجمتها لجميع لغات العالم. ومحاولة فرضها في دول العالم. كمثال الصين أصبحت تدرس فيها اللغة العربية".

  التحرّر من التّبعية

وفي منوال هذا التحليل، ذهب البعض إلى رؤية أن تعميم الإنجليزية بداعي لغة العلم، يعتبر خطأً كبير، وهو ما خاض فيه العديد من الأساتذة في استجواباتهم من قبل " الترا جزائر"، ودواعي ذلك حسبهم:" العلم ليس محصور في اللغة، إذ لا ينحصر البحث العلمي في لغة معينة، فلا يمكن حسبهم الهروب من تبعية إلى تبعية أخرى.

 لماذا دائمًا نتبع غيرنا ومن نتبع المستعمر والغرب. إذا كانت فرنسا استعمار كذلك أميركا وإنجلترا استعمار. يعني الهروب من تبعية إلى تبعية أخرى. وهذا دليل على ضعفنا وليس قوتنا. لأن القوة تكمن في تقوية لغتنا العربية. وتقوية اقتصادنا.

ويستبعد البعض سهولة التملص من اللغة الفرنسية، لأن " ثقل الماضي وصراع الهوية عميق"، مثلما ذكر الباحث في علم الاجتماع فريد سلاقجي أن هناك ازدواجية كبرى ثقافية ونخبوية بين العربية والفرنسية وهو ما يعني صراع اللسان الأيديولوجيا.

وحسب محدث "الترا جزائر" فإن الجزائر تسير وفق خطّ التاريخ الذي لا يمكن أن نتغاضى عنه وعن اللغة التي نقلت إلينا، متسائلًا: كم من الوقت يلزمنا لنتحرر ثقافيًا؟".

وفي سياق آخر، شدد الأستاذ العضو في المجلس الوطني للاتحاد الوطني لعمال التربية والتكوين مسعود عمراوي إلى أن إقرار تدريس مادة اللغة الانجليزية في الابتدائي قرار نثمنه وهو مطلب الأولياء ورجال ونساء التربية والنقابات، متخوفا مما أسماهم بـ"وكلاء فرنسا في الجزائر".

وحول الموضوع قال عمراوي في إفادته لـ" الترا جزائر"  إن الفرنسية لا تستعمل كثيرًا في العالم، إذ سبق لوزير التربية الوطنية السابق علي بن محمد أن أقرّ في سنة 1990 تعلم اللغة الإنجليزية في الابتدائي إلى جانب اللغة الفرنسية، غير أنه واجه عصى غليظة من "التيار الفرنكوفيلي في الجزائر، وتم وأد القرار قبل أن يولد، على حدّ قوله.

عاود مشروع تعليم اللغة الإنجليزية في العام 2000 وأجهض  المشروع مرة أخرى ولم يجسد على الميدان وطوي الملف نهائيًا

عاود مشروع تعليم اللغة الإنجليزية في العام 2000، واستحدثت اللجنة الوطنية لإصلاح المنظومة التربوية التي ترأسها رئيس جامعة باب الزوار للعلوم والتكنولوجيا الدكتور علي بن زاغو، والتي كانت من أهم توصياتها إدراج اللغة الإنجليزية في التعليم الابتدائي، وأجهض  المشروع مرة أخرى ولم يجسد على الميدان وطوي الملف نهائيًا، فهل يتمكن الفاعل السياسي من تمرير وتنفيذ القرار أم ستكون الماكينة الصلبة هي من تتحكم في لغة الجزائريين التي تريد؟