12-يونيو-2022
نور الدين بكيس (فيسبوك/الترا جزائر)

نور الدين بكيس (فيسبوك/الترا جزائر

يطرح أستاذ علم الاجتماع السياسي نور الدين بكيس مجدّدًا مشاهد من التغيّرات الحاصلة في المجتمع الجزائري، من قيم وسلوكات، يُفترَض في الباحث أن يُرافقها كظواهر –حسبه-لا أن ينتظر وقوعها حتّى يُعلّق عليها، في كتابه "الصّعاليك الجُدد"، يحرِث في عمق الشّخصية الجزائرية، محاولًا تعرية ما علق فيها من شوائب والإمساك كأكاديمي بأسباب "السلوكيات السيئة"، بعيدًا عن توجيه سهام الأحكام السلبية لجهة ما بل "نحن نشترك فيها جميعًا"، كما رجع إلى وثبة التّغيير الذي ولد من رحم الحراك الشّعبي ونظرته لما بعده خاصة في علاقة مع الممارسة السياسية التي تقتضي التّوافقات على الأهداف والتّقاطعات.

 

نور الدين بكيس: الساحة الإعلامية والسياسية تعيش خنقًا أكبر بكثير من مرحلة ما قبل الحراك، وهذا طبيعي لأن النظام قبل الحراك لم يكن يشعُر بالتّهديد وكان متأكدًا من ضمان الاستمرارية والاستقرار

  • ماذا تقصِد بالصّعاليك الجُدد؟

ببساطة هم قادة التّعطيل في الجزائر في جميع المستويات، لأنّهم يمارسون أشكال متعدّدة من الصّعلكة تمنع الجزائريين من بناء دولة بمعايير حديثة تستجيب لمتطلبات المجتمع المتزايدة، وبالتالي أردنا أن نوجّه القارئ لفئة خطيرة جدًا تقود التعطيل في الجزائر وتمنع تقدم المجتمع في مختلف المجالات، فالأكيد أن الجزائريين يشعرون بصعوبة إحداث التّغيير المنشود، ولكن الكثير منهم لا ينتبه بأن للتّعطيل قادة، وللفوضى نظام يسيِّره فاعلون منظّمون بأدوار واضحة وتقنيات ممارسة محيّنة باستمرار.

  • لماذا اخترت الصعاليك؟ وماهي مقاربتك له في المجتمع الجزائري؟

فكرة التسمية جاءت بناء على الرّغبة في جلب القارئ وإثارة فضوله، لأن ثقافة المجتمع تعتبر الصّعلوك إنسانًا فيه كل الصفات القبيحة والمذمومة، فأردنا أن نستفزّ القارئ بتنبيهه لوجود فئات من الصّعاليك يؤثّرون في حياته بشكل كبير جدًا، ولكي نميّز هؤلاء الصعاليك عن صعاليك الجاهلية وشخصيات الأدب العربي، أضفنا صفة الجدد لكي نستطيع وضع مفهوم إجرائي يشرح بالتّفصيل من هم هؤلاء الصعاليك وما هي مواصفاتهم وآليات اشتغالهم وما هي الاستراتيجيات المعتمدة بحسب مجال تخندقهم واشتغالهم.

وبالتالي هي عملية توظيف لموروث ثقافي حول شخصية الصعاليك من أجل معالجة ظاهرة قادة الفساد المجتمعي الذين يتوزّعون في مختلف مناحي الحياة لتتقاطع جهودهم إراديًا وأحيانًا عفويًا في شل حركة المجتمع وإبقاء الأوضاع على ما هي عليه من فساد وتسيب، فالجزائريون عادة ما يركزون على صعاليك السياسة والإدارة والتجارة بينما الكتاب يوسّع الدائرة لثمانية فئات أخرى من الصعاليك يتقدمهم صعاليك العائلة والحيّ والتديّن ونجوم الفنّ والرياضة.

ومن هنا الكتاب لا يستهدف حصر أشكال الصعلكة بقدر ما يفتح النّقاش حول فعل الصّعلكة الذي يتكيّف وفقا للشّكل المناسِب لطبيعة مجال الاشتِغال عليها.

  • ما هي أزمة المجتمع من منظورك كباحث أكاديمي، ولديك عدة مقاربات وكتب تتحدّث عن "المواطن السيّء" تارة وعن "الصعاليك" تارة أخرى، وعن التّغيير الذي عرف زخمًا مع الحراك الشعبي؟

اعتقد أن أزمة المجتمع تنظيمية بالدرجة الأولى، لأن التنظيم الجيّد يعطينا مواطنًا جيدًا، بينما التّنظيم السيّئ بالضّرورة ينتِج المواطن السيّئ، والمشكل الأساسي أن تنظيم المجتمع في حدّ ذاته هو شكل مباشر من أشكال توزيع السّلطة وتغييره يعني إعادة توزيع النّفوذ والسّلطة من جديد وهذا ما يمنع التّغيير، لأن المستفيد من التّنظيم الحالي الذي لا يخدم الأفراد والمجتمع، لن يقبل بالتّغيير ولن يتنازل عن موقعه القيادي وسلطته القائمة، ومن تمّ ندخل في إشكالية التغيير بحيث يصبح المتضرر هو المجبر بصناعة التغيير وليس المستفيد منه، لأنه لا يمكن تصور إلا نادرًا أن يتنازل المستحكم على زمام السلطة لمن تحت سلطته، بمجرد تحرك الوازع الأخلاقي وصحوة الضمير، هذا ما يضع المواطن في حالة مسائلة، طبعًا بعد الاتفاق على تجريم المستبد والمحتكر للسلطة وأدوات التغيير.

سبق لكم أن أصدرتم كتاب بعنوان "من أين نبدأ التغيير" برأيكم ماهي آليات التغيير؟

ليس هناك طريق واحد للتّغيير، بل الكثير من السّبل قد تصلح للتّغيير، إلّا أن ذلك يتوقّف على سياق البيئة التي نريد إحداث فيها التغيير، لأن السياقات تختلف والمجتمعات بقدر ما تتشابه تختلف ولا يمكن أن نعمّم عليها تصوّرًا واحدًا للتّغيير، لذلك بعد دراسة معمّقة لجملة من التّجارب التي عاشها المجتمع الجزائري لمحاولة إحداث التغيير المنشود، بات من الضروري استخلاص الدروس ووضع استراتيجيات مناسبة للواقع المعاش، قد تكون مفاتيح حقيقية لإحداث التغيير، فقد جرب جزء من الجزائريين محاولة تغيير النظام بالقوة والسلاح وفشلوا، كما جرب ملايين الجزائريين محاولة تغيير النظام بالمسيرات والاحتجاجات إلا أن النظام حافظ على مركزه، وأحيانًا ازداد قوة وصلابة بعدما استطاع تجاوز صدمات محاولات التغيير، فحدث العكس وصار النظام هو من يريد تغيير نفسية الشعب وإجباره على إعادة مراجعة سقف التطلعات.

  • من أين نبدأ التغيير الذي لازال يطمح له الكثيرون في الجزائر؟

الأصل أن يشتغل الناس بطريقة منظمة بناءً على خطط استراتيجية وفقا لقدرتهم على التغيير، باستثمار المساحات المتاحة والقابلة للتوظيف من أجل تحقيق التغيير، لذلك كان دائما الاختلاف قائم ما بين من يرون الوسيلة المثلى للتغيير هي تغيير النظام ومن يرى في تغيير وإصلاح المواطن سبيل للتغيير، في حين ليس هناك من يمنع المزاوجة بين المنهجين، بحسب طبيعة السياق والظروف، فقد تأتي سياقات قد تساعد بشكلٍ كبيرٍ على تغيير النظام بالتدافع السياسي والاحتجاجي، بينما قد تعيش المجتمعات سياقات يستعصي فيه تفعيل التدافع السياسي كما هو حاصل اليوم في الجزائر، وبالتالي يفتح المجال واسعًا لإصلاح المواطن، على الأقل كي يكون جاهزا عندما يتغير السياق ويفتح الباب للتدافع السياسي والاحتجاجي من جديد، لذلك مشروع كتاب من أين نبدأ التغيير؟ لم يركز على تغيير النّظام ولا تغيير المواطن، بل كل التركيز كان قائما على فكرة تغيير البيئة الجزائرية في كل تمظهراتها كي تصبح بيئة مساعدة على إحداث التغيير، لأني أعتقد أن التغيير لم ينضج بعد في الجزائر والشّواهد على ذلك كثيرة، بما في ذلك الكثير مما اعتلى تجربة الحراك الشعبي من تناقضات وتوترات.

  • وفق السياق الذي تشهده الجزائر منذ بداية 2019، ماذا حقّق الحراك الشّعبي؟

لقد استطاع الحراك أن يطرح إشكالية التغيير ويطرح النقاش حول شرعية النظام وطبيعة الجزائر التي يحلم بها الجزائريون، وقد حاول الجزائريون النّهوض بعد سبات عميق واستسلام لعشرات السنين، وبالتالي الحراك حقّق انجازات كثيرة لا يسع المجال لذكرها ولكن رفع سقف التطلعات أثناء الحراك وتضخيم قدرته على التغيير رسم مشهدًا زائفًا ساد فيه الاعتقاد بأن بضع مسيرات كافية لدفع النّظام للرحيل وبداية مسار ديمقراطي نزيه، وبالتالي تقييم الحراك بناءً على سقف التطلعات المرتفع يضعه في خانة التجربة الفاشلة بامتياز.

أما القراءة الموضوعية لما حققه الحراك تقتضي العودة إلى ما قبل اندلاع الحراك ومقارنتها بما كانت عليها الأوضاع، هذا ما يجعلنا نعتبر أن الحراك فتح الكثير من الهوامش للاشتغال تحتاج لمن يؤمن بها ثم يعمل على توظيفها أحسن استغلال، ويكفي أنه بعد مرحلة الاستهزاء والتهريج التي كانت تسود قبل بداية الحراك واستخفاف النظام بقدرات الجزائريين على إزعاج النظام، بات النظام اليوم تحت المساءلة وفي قفص الاتهام، حتى أن كل الخطاب الرسمي يدور تقريبًا حول محاولة تبرئة الذات وإبداء حسن النية، والتبرير لكل قرار.

  • هل استطاعت المؤسسة السياسية (السلطة-الرئاسة) توفير الحرية للممارسة السياسية والإعلامية؟

لا اعتقد ذلك؛ فالساحة الإعلامية والسياسية تعيش خنقًا أكبر بكثير من مرحلة ما قبل الحراك، وهذا طبيعي لأن النظام قبل الحراك لم يكن يشعُر بالتّهديد وكان متأكدًا من ضمان الاستمرارية والاستقرار، بينما اليوم النخب الحاكمة تجد صعوبة كبيرة في تسيير المرحلة وخلق ديناميكية تغيير لبعث المشاركة والمساندة الشعبية لمشاريع النظام، فلا هي استطاعت تعبئة المجتمع المدني الحقيقي ولا هي استطاعت خلق توافق سياسي يسمح بالخروج من الشعور بالعجز أمام التحديات التي ما فتئت تزداد يومًا بعد يومًا وتحاصر سياسات السلطة باستمرار، وبالتالي النخب الحاكمة ليست في وضع جيّد فقد استطاعت استيعاب موجة الحراك وضمان البقاء في النظام، إلا  أنها تبقى عاجزة عن خلق ديناميكية تنمية قادرة على الاستجابة لحاجيات الناس، لأن متطلباتها ليست في متناول المؤسسة السياسية حاليًا، لأنها تفتقر للقوة السياسية التي تسمح لها بوضع وتنفيذ استراتيجيات في مستوى التحديات.

  • ألا ترى أن الجزائر تعيش مرحلة تقلّص الحريات وحرية التعبير؟

أعتقد أنّها مرحلة طبيعية لأنها ترتبط بمدى استقرار النظام، فالأكيد أن النّخب الحاكمة لا يشعرون بالاستقرار الداخلي وهم منشغلين حاليا بتنظيم بيت النظام، كي لا يتحمّلون مزيدًا من الانتقاد، خاصة وأن فعل الاعتراض في الجزائر أقرب للمنطق الشعبوي من المنطق العقلاني البنيوي، فالاعتراض بات ثقافة بدون تأسيس ولا تفكير هادئ في المآلات، بل صار سجل قائم بذاته من دون مراجعة ولا تصحيح للاتجاه، فنحن لا نمارس السياسة، لأننا نرفض الاشتغال في مساحات التقاطع والتوافق على الأهداف ولو كانت فئوية، لذلك أعتقد أن المعارضة عمومًا في الجزائر سواء المعتمدة أو غير المعتمدة ورثت الكثير من الأخلاق السيّئة للنظام، مثل الوصاية والسّلطة الأبوية والمسارعة للتخوين والنرجسية..

نور الدين بكيس: جل ما كتب عن الحراك اكتفى بمغازلته أو وضعه في خانة التخوين والانكار

  • بالمقارنة لما قبل الحراك الشعبي، ما الذي حصل أو ما الذي تغير بين المرحلتين؟

أقل شيء يمكن الاعتداد به أن تجربة الحراك كشفت جزءًا مهمًا من الواقع الجزائري، فقد بتنا نعلم مزاج الشّارع ورأيه في أداء السلطة على أرض الميدان بعيدًا عن الانطباعات القائمة بناء على التفاعلات في العالم الافتراضي، ونحتاج إلى مئات الدراسات حول الحراك الشعبي لأنه محطّة ضمن سيرورة من الأحداث، لم تنل القدر الكاف من البحث والدراسة، لأن جل ما كتب عن الحراك اكتفى بمغازلته أو وضعه في خانة التخوين والانكار، فكيف نستطيع تقييم تجربة لم تنته بعد، ونعيد قلب الصفحة وكأنه لم يحدث شيء يذكر ويستدعي الاهتمام، إذا لا يمكننا حاليًا الحديث عن تمييز بين مرحلتين لأننا لا زلنا حسب اعتقادي لم ندخل مرحلة ما بعد الحراك، فالارتدادات لا زالت قائمة والمستقبل القريب سيفتح الجزائر على عدة تطورات لن تكون إيجابية بالضرورة ولكنها بالتأكيد ستكون انعكاس جزئيًا لما فتحه الحراك من مسائلات وتطلعات.