18-يونيو-2022
نشاطات مشروع حلم (فيسبوك/الترا جزائر)

نشاطات مشروع حلم (فيسبوك/الترا جزائر)

تشهد الساحة الفنية والثقافية في الجزائر ركودًا كبيرًا يستمر منذ سنوات، مع ذلك، وفي قلب كل هذا الخواء الفسيح، ولد مشروع "حُلم" الذي ما زال أصحابه مؤمنين بجدوى الأحلام في هذا البلد المنهك من فرط الكوابيس، وبشرعية تحقيقها في أرض الواقع، رغم الصعوبات التي تصادفهم عند كل خطوة، ورغم التعب والإحباط المحيط بهم، لعلهم يمنحون نفسًا جديدًا لوسطٍ دخل منذ فترة طويلة مرحلة الإنعاش.

اجتمع إذن ثمانية شباب من خريجي الجامعة في الجزائر ودخلوا تربصًا مغلقًا دام شهرًا كاملًا للتدرّب على السينوغرافيا والموسيقى والإخراج ولغة الجسد

اجتمع إذن ثمانية شباب من خريجي الجامعة في الجزائر، ليجسدوا حلمهم في أرض الواقع، كل برؤاه واختصاصه وبأمانيه التي تبحث عن أفق للتحليق، حاملين في جعبتهم خبرة تفوق الثمانية سنوات في "الحركة المسرحية المعسكرية"، فدخلوا تربصًا مغلقًا دام شهرًا كاملًا، حيث تم تأطيرهم من طرف مجموعة من المختصين في فنون المسرح المختلفة كالتمثيل، السينوغرافيا، الموسيقى، كتابة النصوص، الإخراج ولغة الجسد، إضافة إلى دراسة سيكولوجيا الطفل بالاستعانة بأخصائيين نفسانيين ومربين.

تمثل الهدف الرئيسي من هذه الورشة  إنتاج عروض مسرحية خاصة بأطفال المقاطعة التربوية بابا علي بولاية معسكر، حيث يخرج كل متربص من الورشة نحو مدرسة معينة هناك لتقديم ورشة أخرى لعشرة أطفال في التمثيل المسرحي، ليتم بعد ذلك إنتاج ثمانية عروض في ثمانية مدارس ابتدائية، يستفيد من خلالها ثمانون طفلًا من فرص التنافس والتحدي والتمثيل والتربية الفنية في هذا الحي الشعبي "الساخن"، ثم الدخول في مسابقة تنافسية، والمشاركة في حملات توعوية تسهم في تشجير وطلاء حيهم بابا علي.

نشاطات مشروع حلم (فيسبوك/الترا جزائر)

 ابن بابا علي الذي أنقذه الفن

 مختار حسين، فنان شاب وصاحب فكرة مشروع "حلم"، كان  قبل كل ذلك طفلًا قادمًا من هذا الحي الشعبي، حيث أقيمت بعض نشاطات هذا الحلم الذي يحاول التملص من قيود الرسميات والتحليق بالفن بعيدًا باعتباره وسيلة علاج نفسي وتربوي أيضًا.

في حديث لـ "الترا جزائر" ، يَعتَبِرُ هذا الفنان النشيط نفسه مثالًا عما يمكن أن يكون مصيرُ طفل عاش في الأحياء الشعبية "الساخنة" بعد تجربة الاحتكاك بالفن والفنانين، فقد وجد مختار قبلًا في سن السابعة من عمره رجلًا طيبًا يدعى "الحاج"، وهو شخص كان مكلفًا آنذاك بتنظيم بعض المخيمات الصيفية، فألحقه بها طيلة فترة الصيف، حيث كان يصقل هذا الفتى الحالم حبه للغناء والمسرح والقيثار، لهذ، فقد أرجع كل الفضل إلى هذا الرجل في إنقاذه من بيئة كانت لتؤثر على سلوكه وشخصيته وعلى ما هو عليه اليوم، ومن خطر الانجراف نحو كل أنواع الانحراف.

نشاطات مشروع حلم (فيسبوك/الترا جزائر)

ولادة الحلم

يقول الفنان مختار حسين إن فكرة مشروع "حلم" قد تجسدت في أواخر سنة 2018، حيث قدموا مقترحها للمؤسسات سنة 2019، لكنها بالأساس كانت وليدة فترة سابقة، خلال سنة 2013 أيام تأسيس مسرح القوس في مدينة معسكر من طرف بعض شباب هذه المدينة، وقد تطورت الفكرة بعد ذهابه إلى تونس من أجل تكوين خاص في المركز العربي الافريقي للأبحاث والتكوين المسرحي، وبعدها إلى بيروت للحصول على تدريب آخر في مجال السايكودراما ( العلاج النفسي عن طريق الفن).

بدأ مختار حسين الدفاع عن فكرة مشروع "حلم" سنة 2019، وقال إنه كان يمتهن التدريس في مدرسة "الأوراس" ، وهي مدرسة خاصة بأبناء السفراء في الجزائر العاصمة، وهناك لاحظ الاهتمام الكبير بالمسرح باعتباره مادة أساسية مثلها مثل أية مادة أخرى علمية كانت أو أدبية، كما لمس اهتمام المكوِّن المسرحي مصحوبًا بالمديرة البيداغوجية والطبيب النفسي الخاص بالمدرسة بإيجاد حلول للمشاكل النفسية التي قد تمس الأطفال المتمدرسين، وقد كان هؤلاء  يركزون حسبه على كل تلميذ على حدة، باعتبار الفن طريقة ناجعة وفعالة لمرافقة الطفل من الناحية النفسية.

بعد التكوين الذي قام به مختار حسين في المركز العربي الأفريقي للأبحاث والتكوين المسرحي، نقل تجربته إلى الجزائر من خلال ورشة طاقة الممثل التي مر بها حوالي مئة ممثل محترف يشتغلون حاليًا في المسرح والدراما والسينما، وعن ذلك، قال المتحدث إن هذه الورشة كانت ذات سيط واسع وطيب في الوسط الفني الجزائري أثناء وبعد إقامتها.

نشاطات مشروع حلم (فيسبوك/الترا جزائر)

دعم فنّي وشُحٌّ إعلاميّ

اعتبر مختار حسين أن التفاعل مع مشروع "حلم" في الأوساط الفنية كان وما يزال جميلًا ومثمرًا جدًا، لأن هذا الحلم تلقى العديد من المساعدات المادية والمعنوية من طرف الفنانين، أما من الناحية الإعلامية فقد كانت التغطيات شحيحة جدًا، فخلال فعاليات المهرجان الذي تدور حاليا، لم تتم أية تغطية إعلامية لما يقوم به طاقم العمل والأطفال، لا من طرف الصحافة المكتوبة ولا المرئية.

أكد المتحدث أن أفراد "حلم" يعملون وحيدين، لكن هذا العمل غير المدعوم إعلاميًا أظهر لحسن الحظ فعالية أكبر من الإعلام في حد ذاته، لأن الفنانين الذين يملكون ملايين المتابعين على مواقع التواصل يقومون بنفس الدور الإعلامي ذاك أو أكثر منه بكثير،  من خلال الحديث عن هذا المهرجان ونشاطاته في صفحاتهم الإلكترونية العامة والخاصة، إضافة إلى أن قلة قليلة من وسائل الإعلام قد تنقل الحقيقة وما يقال من تصريحات على منابرها، وقد يحورون ما يقال بكلام خشبي لا يفيد إلا صورة المنبر الاعلامي الذي يمثلونه.

أكد مختار حسين أن هذا النوع من المشاريع لا تكفيه كلمات الدعم والتوفيق فقط من الاعلاميين والمسؤولين، بل إن المساعدة الحقيقية تكمن في التجسيد الواقعي بالعمل والمعدات والتسهيلات لتحقيق حلم كل من ساهم في هذه الفكرة الحلم.

نشاطات مشروع حلم (فيسبوك/الترا جزائر)

حلمٌ لا تراه الجهات الرسمية

أكد مختار حسين أن "حلم" قد تحصل سابقا على دعم من طرف صندوق دعم الإبداع الفني والأدبي بنسبة لا تتجاوز 27٪ من إجمالية تكاليف هذا المشروع، وتم الحصول على 50٪ فقط من مبالغ الدعم، ثم تم إغلاق هذا الصندوق  وبقي المسؤولون عن المشروع "معلقين" مع الديون  في انتظار الإفراج عن بقية المبلغ إلى غاية اليوم.

يضيف المتحدث هنا أنهم استفادوا أيضًا من خبرات مؤطرين قدموا ورشات تطوعية مجانية، ومن خدمات مطعم تكفل بسندويشات مجانية خلال المهرجان، كما استفاد الأطفال المشاركون من إعانة مجانية لطبيبة عيون تمثلت في معاينات طبية، وقدمت لهم بعدها نظارات مجانية، كما ساهمت ماديا وإلى غاية اللحظة في نشاطات أخرى مثل حملة التشجير وغيرها من النشاطات.

أما في ما يخص المؤسّسات الثقافية والفنية، قال مختار أنها  قدمت إعانات مشروطة وشحيحة ارتبطت بعدة معوقات، فمثلًا، منحت مديرية الثقافة خمس غرف خاصة فقط لضيوف شرف قلة اقترحهم المهرجان مع بعض الملصقات المطبوعة وكفى، كما حصل القائمون على المشروع على رعاية غير مادية للوالي تمنحهم فقط حرية النشاط ميدانيا، لأن المشروع بالأصل كان مرفوضا من طرف أكاديمية معسكر،  وتم قبوله بعد الحصول على تلك الرعاية.

بشكل عام، تأسف المتحدث هنا من عدم إيمان الجهات الرسمية بهذا النوع من المشاريع الفنية الجادة في الجزائر، مشاريع ذات أهداف نبيلة وتسهم في خدمة المجتمع وصقل شخصية الطفل، وأكد أنه لا أحد يولي اهتمامًا إلا للنشاطات الفوضوية التي لا هدف منها.

تجدر الإشارة أيضًا إلى أنهم وجّهوا عدة طلبات للقاء الوزيرة والوالي، لكن لا رد عليها إلى حد الآن.

"الحلم" وحده لا يكفي..

يعتقد المدير الفني لمشروع "حلم" إبراهيم بوعزة في تصريح لـ "الترا جزائر"، أن الحلم وحده غير كافٍ لنجاح أي مشروع ثقافي واعد في الجزائر، بل وجب بعده الإيمان بأحلامنا وتحويلها إلى أهداف، وإلا سنبقى مجرد حالمين يمر بنا العمر دون أن نستيقظ.

ويؤكد بوعزة  أن الدعم والتمويل وتوفير الوسائل لهم أهمية بالغة لتتجسد هذه الأحلام، ذلك أن الاصطدام بالواقع شيء آخر مقارنة بما يدور في أذهاننا ومخيلاتنا، وما تتلقاه هذه المشاريع من عراقيل بييروقراطية ومادية وتقنية.

يظنّ المتحدث هنا أن الركود الثقافي الذي تشهده البلاد منذ سنوات راجع إلى نقص في هذه المشاريع الهادفة والأفكار الإبداعية الجديدة التي لم يسبق لها مثيل "مثل مشروع حلم"، وبالتالي فإن النجاح في تجسيد الأحلام يرتكز بالأساس على مدى تميزها واستثنائيتها، وعلى درجة الإيمان بها والسعي إلى تحقيقها مهما كلف الأمر.

يحتاج الميدان الثقافي والفني إلى الإبداع والتجديد في الأفكار خدمة للمواطن والمثقف والفنان معا، فإذا دخل المثقفون والفنانون في دوامة التكرار والأفكار النمطية، سيكون هنالك ركود لا محالة، خاصة في ظل التقدم الملحوظ في هذا الميدان على المستوى العالمي.

تفاعل لا يرقى إلى مستوى المشروع

من جهته، يرى  ياسر عزام، المدير الإداري لمشروع "حلم" في اتصال مع "الترا جزائر " أنه  بالنظر لحجم المشروع وثقله في كل المقاربات الثقافية، الاجتماعية والميدانية خاصّة، وفي ظل الركود الثقافي ، تعتبر الصعوبات جزءًا من التحدي الموجود في المشروع والتي نذكر منها قلة الموارد المادية سواء من جانب القطاع  العمومي أو الخاص.

وتحدّث عزام عن محاولات عديدة لهم كإدارة للمشروع منذ شهر كانون الأول/ديسمبر 2021، أي قبل شهر من انطلاق المشروع، للتواصل مع أكثر من  100 مؤسسة ما بين عمومية و خاصة لدعم المشروع، وهو رقم غير مبالغ فيه في الحقيقة، كما أنها مؤسسات معروفة إضافة إلى بعض السفارات، وبعض المنظمات غير الحكومية، فتلقوا تجاوبا من قلة قليلة منها، مثل المؤسسة السينمائية "ميروار برود" التي تكفلت بتوفير أجهزة الإضاءة، وأكسسوارات الكاميرات.

هنا، يقول المتحدث إن التفاعل في الحقيقة لم يكن يرقى  للحجم المقبول على الأقل و بعيدًا عن الجانب المادي، كان غياب المرافقة المعنوية و الميدانية من بعض المؤسّسات الوصية على قطاع الثقافة، يضيف، جهودًا تثقل كاهل طاقم المشروع بدل أن تكون عونًا له.

نشاطات مشروع حلم (فيسبوك/الترا جزائر)

حياة الأطفال وأوليائهم مع "حلم"

بالعودة إلى مختار حسين، وفي حديث عن تفاعل الأطفال وأوليائهم مع المشروع، قال هذا الفنان أن الفن والمسرح لدى الطفل يعتبران لعبة بشكل أو بآخر، حتى أن تلقين المناهج التعليمية في الدول المتطورة يتم حاليا عن طريق اللعب، هم لا يدرسون بطرق التلقين التقليدية التي ما زلنا نراها في مدارسنا، لهذا نجد أن الطفل يرحب تلقائيا بأي نشاط قد ينطلق فيه من خلال اللهو واللعب، لأنها نشاطات جسدية وفكرية تفجر فيه طاقاته الكامنة.

لمس أصحاب "حلم" حسب المتحدث تشجيعًا كبيرًا من طرف الأولياء لتجربة أبنائهم في هذا المشروع، خاصة حينما توفرت عناصر المنافسة والاحتكاك في هذا الحي الشعبي، حيث رحبوا بالطاقم بشكل جميل وشاركوهم طعامهم ومأكلهم وحتى منازلهم.

أكد مختار أن الشعب في حد ذاته يرحب بكل فكر جميل وجديد يغير به نمط حياته الرتيب، كما أن الفرد الجزائري يحس فعلا بمَوَاطِنِ الأشياء النبيلة التي تفيده وتفيد أبناءه من خلال هذه المشاريع الحالمة.

نشاطات مشروع حلم (فيسبوك/الترا جزائر)

حلم تحقق لولا الإحباط..

يمكن اعتبار نجاح مشروع "حلم" نموذجًا أو بوابة نحو مشاريع مماثلة في المستقبل، لكن شعور الإحباط الذي يواكب التجسيد في أرض الواقع، يجعل الحالمين يفكرون جديا في القطيعة مع المؤسسات الرسمية، ويدفعهم إلى التفكير ألف مرة قبل المضي قدمًا في أية فكرة مشابهة، لأن الخوف من المجهول الذي قد ترميهم فيه هذه المؤسسات الفاشلة التي تعد عدوة للأفكار والمشاريع الخلاقة، قد يشل أي حلم قادم يكشف عورتها أو يسلط الضوء على العجز الذي تعاني منه.

إبراهيم بوعزة: الاصطدام بالواقع شيء آخر مقارنة بما يدور في أذهاننا ومخيلاتنا

مع كل هذا، ينأى الفنان الحقيقي بنفسه عن كل تعب، ولربما ستكون هنالك مشاريع أخرى من هذا النوع قريبًا لترفع اسم الفن عاليًا  في الجزائر رغم كل الفجوات السحيقة والعراقيل المضنية، لعل مواطن الجمال والإبداع قد تنفجر أخيرًا في الأحياء المنسية.