25-يونيو-2022
(الصورة: Getty)

(الصورة: Getty)

في كلّ  مرّة تصدر قرارات متعلّقة باللغة والهوية في قطاع التربية، تثار نقاشات لا تنتهي بين ما يطلق عليه التيار المعرب والفرونكفوني، حيث يلجأ كل تيار إلى تحميل الآخر نتيجة الوضع الذي يشهده قطاع التربية والتعليم، وتدهور المستوى الثقافي لدى الجزائريين.

باحث أكاديمي: بعد عشريتين من التعريب الشامل للمنظومة التربوية تراجع المستوى في مختلف الأطوار التعليمية، نتيجة التعريب الفوضوي وغير المدروس، إلى درجة وصول بعض المدرسين في الجامعة إلى مرتبة الأستاذية وهم وحيدي اللغة

في هذا السياق، يحاول كلا الطرفين ربط عامل اللغة بتقهقر أغلب المجالات الحيوية في البلاد، كما يذهب البعض منهم إلى الدخول في مشادات كلامية لا تُؤسّس بالأصل على دراسات وأبحاث أكاديمية، ويدخلان في جدالات طويلة ومناظرات إنشائية لا تبحث غالبًا في الأسباب الحقيقية للمشكلة ولا عن الآثر الحقيقي للغة في المجال التربوي، الاقتصادي والاجتماعي وحتى الثقافي في البلاد.

نشهد إذن هذه الأيام صراعًا جديدًا بين التيارين المعرب والفرونكوفوني حول إقرار تعليم اللغة الإنجليزية في الطور الابتدائي لأوّل مرة منذ الاستقلال، حيث أمر الرئيس عبد المجيد تبون حسب بيان لمجلس الوزراء "اعتماد اللغة الإنجليزية، بدءًا من الطور الابتدائي، بعد دراسة عميقة، للخبراء  والمختصين".

يعود هذا الجدل إلى بروز ردود أفعال تراوحت بين التهليل للقرار وبين التشكيك في نجاح تطبيق القرار الذي اعتبروه ارتجاليًا وسياسيًا محضا دونما دراسات تربوية وأكاديمية وأبحاث معمقة في البرامج التعليمية المحلية وكيفية إدماج تلاميذ الطور الابتدائي مع هذه اللغة ومعلميها

في قلب هذا التفاعل الكلامي، احتد النقاش في مواقع التواصل المختلفة، لتشتعل الخلافات بين نشطاء ومدونين منهم دكاترة في الجامعة ومثقفون حول جدوى استبدال اللغة الفرنسية بالإنجليزية، ليصل الأمر إلى "صراع" أيديولوجي بين الفئتين واستقواء كل فئة منها بأنصارها للرد على اتهامات الأخرى.

هل من الضروري أن نشعل نقاشات هي بالأصل متجذرة بين هذين التيارين لنناقش دراسة لغة عالمية مهمة؟ هل استبدال  لغة أجنبية بأخرى قد تصل بنا إلى مستوى ثقافي أفضل؟، أم أن التعدد اللغوي لدى نسبة مهمة من الجزائريين ضرورة ثقافية واجتماعية وتربوية وامتيازٌ يمنحهم اختلافًا مطلوبًا في هذا العصر؟

ما علاقة الصراع العربو-فرونكوفوني بإقرار لغة أخرى في نظام التعليم؟ ولمَ يشعر هؤلاء بالريبة من بعضهم البعض في كل مرة تثار فيه مشكلة اللغة والهوية في الجزائر؟ هل المشكلة في اللغة بالأساس أم في المناهج الدراسية وحملها الثقيل على التلاميذ والأساتذة على حدّ سواء؟

صراع المناصب والأيديولوجيات

إلى هنا، قال الباحث في العلوم السياسة والعلاقات الدولية عقيل عبد الله أكير في حديث إلى "الترا جزائر"، إن الصراع في الجزائر حول اللغات عمومًا واللغات المدرسية على وجه الخصوص ليس وليد اليوم وإنما يعود إلى حوالي نصف قرن، وهو في جوهره صراع حول المناصب وما تتيحه من نفوذ وريع، دون إغفال الخلفيات الأيديولوجية لهذا الصراع والذي نلمس ارتداداته القوية على مستوى المنظومة التربوية.

وأضاف أكير أنه في الوقت الذي استطاع فيه المفرنسون الإبقاء على سيطرتهم على قطاعات الاقتصاد والمالية والصحة وبعض الإدارات الحساسة لعشريات كاملة، نجح المعربون في إحداث اختراقات في الإدارة والسيطرة على قطاع العدالة، ناهيك عن نجاحهم في فرض تعريب المنظومة التربوية بالكامل وإحكام قبضتهم عليها، وهو ما سمح لهم بقلب المعادلة حيث" أضحت المدرسة بمثابة مفرخة للمعربين، أو بالأحرى وحيدي اللغة المدرسية، مما سهل عليهم تعريب بقية القطاعات".

في السياق نفسه، يؤكد الباحث أن أكبر الأهداف التي تم إخفاؤها على الرأي العام بل وحتى على الرئيس نفسه آنذاك بشأن المدرسة الأساسية كان زحزحة الفرنسية عن مكانتها في الجزائر من خلال تدريسها بداية من السنة الرابعة إبتدائي، والاكتفاء بتدريسها دون التدريس بها، "فضلًا عن الحملات الدعائية التي كانت تشن ضدها وضد من يستعملها، حديثًا وكتابة، مع وصفهم بالفرانكفيليين وعملاء فرنسا بدل وصفهم بالفرنكفونيين، ليرد هؤلاء على المعربين بوصفهم بالمتخلفين والمتمشرقين".

كل هذا ساهم، حسب المتحدث في تراجع كبير للغة الفرنسية في الجزائر واقتصار التحكم فيها على بعض النخب في مجالات السياسة والاقتصاد والثقافة.

يشير عقيل عبد الله أكير، أنه بعد عشريتين من التعريب الشامل للمنظومة التربوية لوحظ تراجع المستوى في مختلف الأطوار التعليمية، لا سيما في ما يخص اللغات، بما في ذلك اللغة العربية نفسها، نتيجة التعريب الفوضوي وغير المدروس، إلى درجة وصول بعض المدرسين في الجامعة إلى مرتبة الأستاذية وهم وحيدي اللغة، أي دون التحكم في أيّة لغة أجنبية، بل فيهم من لا يتحكم جيدًا حتى في اللغة العربية ويخلط بينها وبين الدارجة التي هي لغة هجينة قائمة بذاتها، تشترك في رصيدها المعجمي وبنائها وتراكيبها النحوية مع لغات عدة تلتقي في نفس البيئة.

أمام هذا الوضع، ومع تزايد الضغط من أجل إصلاح المنظومة التربوية وإعادة الاعتبار للغات الأجنبية، بما فيها الفرنسية، يشير المتحدث إلى أن المعربين قد رموا بكامل ثقلهم لدعم خيار اللغة الأنجليزية متمترسين خلف كونها لغة العصر لاسيما في مجالات العلوم والتكنولوجيا، مع التركيز على وصف اللغة الفرنسية بلغة المستعمر (وكأن الأنجليزية لغة المحرر) وأنها لغة عاجزة عن مواكبة التطور العلمي والتكنولوجي. والحقيقة أنهم يدعمون خيار اللغة الأنجليزية فقط نكاية في المفرنسين وانتقامًا من اللغة الفرنسية التي لا يجيدونها، وإلا فلا شك أنهم سيكتفون بالمطالبة بتدريس الأنجليزية بدل الفرنسية وسيعارضون أيّة خطوة نحو تدريس العلوم والتكنولوجيا بالأنجليزية.

يضيف الباحث، أن هذا التحول لا يتناقض مع الإبقاء على الفرنسية باعتبارها لغة أجنبية مطلوبة في الجزائر، خاصة في ظلّ العلاقات التاريخية التي تربطها بفرنسا ووجود ملايين الجزائريين المهاجرين فيها، فضلًا عن ملايين الفرنسيين من أصول جزائرية. ولهذا، فتدريس اللغة الأنجليزية للتلاميذ في المرحلة الإبتدائية كلغة أجنبية أخرى إلى جانب الفرنسية قرار صائب له مبرراته الموضوعية.

أما حديث بعض المعربين، حسب المتحدث، عن استبدال الفرنسية بالأنجليزية فلا علاقة له بهذه الاعتبارات الموضوعية وإنما هو مجرد رغبة في تهميش المفرنسين وانتقامًا منهم. والحقيقة التي لا يدركها هؤلاء أن اللغة الإنجليزية رغم كونها لغة جرمانية إلا أنها تكتب بحروف لاتينية وحوالي 60% من رصيدها المعجمي أصله لاتيني ومتضمن في اللغة الفرنسية، وهو ما يجعل المتحكمين في الفرنسية في رواق أفضل لفهم الإنجليزية وتعلمها بسهولة. ولا يستبعد أن يعود هؤلاء المعربين للشكوى من المفرنسين مزدوجي اللغة.

السياسة والبداغوجيا 

في ذات السياق، يقول الكاتب المترجم محمد بومعراف أن تدريس اللغة الإنجليزية لتلاميذ الابتدائي ليس خيارًا بل هو أمر ضروري وحتمي في عالم اليوم، وقد تأخرنا حسبه فيه بسبب التسييس و الأيديولوجيات الضيقة البائدة المبنية على بقايا عقليات كولونيالية، إضافة لأسباب عدم كفاية الوسائل البشرية كمًا وكيفًا، وغياب رؤية واضحة متكاملة مع باقي القطاعات.

يؤكد الكاتب وجوب وجود دراسة جدية للمشروع، وتوفير كل الوسائل له، كما يشير إلى أن الإنجليزية ليست لغة أدب وفن و"بريستيج" فقط كما هو حال الفرنسية مثلًا، بل هي لغة العالم الاقتصادي منذ عشرات السنين ولا يمكن لمن لا يتقنها أن يطمح .في اللحاق ولو قليلًا بالدول المنتجة، على حد تعبيره.

يضيف محمد بومعراف أن تصنيفنا في ترتيب الدول التي تحسن الإنجليزية تصنيف متأخر جدًا، كما أن قلة من الأكاديميين عندنا من . يستعملونها في أعمالهم، إذ أن ثصراع النخب بين معربين و مفرنسين، تقليديين وحداثيين يجعل من الصعب تحقيق تطور في المجال، "فلا يمكن لمن هو سجين بؤسه الثقافي والفكري أن يفتح آفاقا لغيره، نفس الاشكال ونفس البؤس النخبوي فيما يخص موضوع تدريس العامية في الابتدائي فهو موضوع قديم كان محل جدل منذ عشرات السنين، روج له بعض الكتاب العرب مثل سلامة موسى في مصر، حيث كان ممن ظنوا أن التخلص من اللغة العربية الفصحى كمرجع ورمزية لغوية وهوياتية، واسعة الجغرافيا والتاريخ، سيساعد على صناعة هوية خصوصية محلية أساسها لغة عامية".

في هذا الإطار، قال بومعراف إن العامية لغة الحياة اليومية والسوق، وقد تستعمل عادة من الأهل في المنازل لمساعدة أبنائهم لفهم كلمات فصيحة جديدة عليهم أو حتى بشكل هامشي في المدارس، لكن لا يمكن أن تصبح هي نفسها " أداة و هدف التدريس"، لذلك فمن الخطر  إدراجها كمنهج و"لغة مستقلة" بذريعة ممارسة اللغة الأم، و هو حسبه، مفهوم هلامي يتم الترويج له دون أدنى نقاش علمي حقيقي و لن تكون نتيجته سوى نخب هزيلة لغويًا و ثقافيًا أكثر مما نعيشه اليوم.

قرار متسرّع وثوري

من جهته، قال الأستاذ في علم الاجتماع عمار بن طوبال إن إحلال اللغة الإنجليزية محل اللغة الفرنسية في التعليم الابتدائي بمقدار ما يجد له مبررًا علميًا واقتصاديًا (على اعتبار أن الإنجليزية هي لغة العلم والإعمال)، فإنه في الحالة الجزائرية قرار متسرع وثوري في الوقت نفسه، والأهم أنه قرار سياسي لا يراعي الواقع الاجتماعي للجزائر الذي يتميز بهيمنة كبيرة للغة الفرنسية على عدة مستويات: إدارة مفرنسة، تعليم مفرنس في التخصصات التقنية، منتجات إعلامية وثقافية بالفرنسية، وهو قرار يشابه في ظروفه وخلفياته وثوريته القرار الذي اتخذته الدولة الجزائرية بتعريب التعليم الابتدائي خلال السنوات الأولى من الاستقلال، في واقع اتسم بهيمنة أكبر للغة الفرنسية.

يعتقد عمار بن طوبال في حديث إلى "الترا جزائر" أن السياسي الجزائري كان يرى وقتها، كما يرى الآن، أن الدفع بقاطرة التغيير اللغوي وحده كفيل بإحداث ذلك التغيير بدل انتظار توفر الظروف أو تغير الشروط الراهنة، وهذا هو جوهر الثورية والشجاعة في القرار الذي يضع جميع المعنيين أمام الأمر الواقع: المعربين المرحبين بالقرار نكاية في المفرنسين، والمفرنسين واللوبيات الفرنكفونية التي سيهدد هذا القرار مصالحها الاقتصادية والسياسية بشكل مباشر، إضافة إلى الشركاء الاقتصاديين في العالم والذين يهمهم أن تتم التعاملات بسلاسة أكبر وبلغة تواصل مشتركة.

هناك الكثير من المتضرريين الذين يسوقون الكثير من التبريرات  التي لا تعمل سوى على عرقلة التغيير الذي تريد السلطة إحداثه، وأن نتائج هذا القرار مرصودة للمستقل، ولكن آثاره المباشرة ستظهر الآن وبشكل جلي من خلال التوجه المكثف لتعلم الإنجليزية من طرف الكثير من الجزائريين تماشيا مع هوى السلطة الجديد، يقول المتحدث.

إن إقرار تعليم اللغة الإنجليزية في الظاهر قد يكون قرارًا سليمًا ومفيدًا وضرورة  لأبنائنا في عصر صارت فيه هذه اللغة عالمية تستغل للتواصل بين الشعوب ومفيدة في كل المجالات الممكنة، خاصة لو لم يكن قرارًا  سياسيًا محضًا ومستغلًا  لتبييض صور المسؤولين في البلد.

المشكل يبدو أعمق بكثير حينما  نلتفت إلى  ثقل المناهج وقدم أساليب التعليم المفروضة في نظامنا التعليمي

لكن المشكل في الحقيقة يبدو أعمق بكثير، حينما  نلتفت إلى  ثقل المناهج وقدم أساليب التعليم المفروضة في نظامنا التعليمي، والذي يلقي بحمله على ظهور التلاميذ والأساتذة والأولياء على حد سواء، وعلى  التيارين المعرب والفرونكوفوني الذين يقعان معًا تحت سلطة مناهج منهكة قديمة وغير عملية ولا تكاد تواكب أساليب التعليم الحديث في العالم.