14-مايو-2022
أمينة ميكاحلي (فيسبوك/الترا جزائر)

الراحلة أمينة مكاحلي

"أنْ تفتحَ نافذةً

وتراقبَ نصيحةً

 لا يحملها الليل

أن تفتح ذراعيكَ

للأرواح المهزوزة

التي تُقهقِهُ تحت الرّيح القاتلِ

أن تفتح عينيك

وترى الحرية

تحت القنابل والأسلاك الشائكة

أن تفتح خَزنتكَ

حيثُ ترُصّ خبزك الساخن

في مَنجًى من أطفالٍ يموتون جوعًا"

هي ترجمةُ لآخر نص نشرته الكاتبة والشاعرة والمترجمة الجزائرية أمينة مكاحلي في حسابها على فيسبوك، قبل أن تغادرنا خلال الأسبوع الماضي بعد صراع طويل مع المرض، عن عمر ناهز 55 سنة في بلجيكا.

عُيِّنت مكاحلي سفيرة الجائزة العالمية للشعر "ليوبول سيدار سينغور" في ميلان الإيطالية، وقد تحصلت عليها سنة 2017 عن قصيدتها " أنا منكم"

ولدت أمينة مكاحلي سنة 1967 في ولاية مستغانم غرب الجزائر، وكانت شخصية متفردة فرونكوفونية القلم، جزائرية الهوى، محبوبة، عشقت الكتابة في سن صغيرة جدًا، وزاولتها لتحكي للعالم دواخلها كما هي بكل إحساس وعفوية وحِلم.

عُيِّنت أمينة مكاحلي سفيرة الجائزة العالمية للشعر "ليوبول سيدار سينغور" في ميلان الإيطالية، وقد تحصلت عليها سنة 2017 عن قصيدتها " أنا منكم"، وفي سنة 2019 عن قصيدة "شفاهٌ بلا ختم".

أصدرت الراحلة أمينة مكاحلي أول كتاب لها بعنوان: "تيارت، أحصنة وأساطير"، كتبت فيه ستين قصيدة وخمس قصص شعبية عن الخيول في مدينة تيارت، كما نشرت أول رواية لها سنة 2016، بعنوان "le secret de la girelle"   ثم  أتبعتها بعد سنة برواية  "nomade brûlant".

رواية لأمينة مكاحلي

في هذا المقال، آثرنا أن نبعث الروح من جديد في جسد القصيدة المرأة التي كانتها أمينة مكاحلي، من خلال شهادات ثلاث نساء عرفنها وعاشرنها كلّ بطريقتها الخاصة، للاحتفاظ بمزق من ذاكرة هذه السيدة في عالم الشعر الناطق بالفرنسية، وقيمتها في الأدب الجزائري الذي منحته روحها، ولعلنا أيضًا، نزيح ستارًا كان يحجب عنا تلك المرأة الغامضة (صاحبة القبعة) التي كان كثيرون يرونها تمر في أروقة المعارض والمكتبات في هدوء بابتسامة ساحرة، ولكنهم أغفلوا أثرها وكتاباتها الإنسانية إلى أن اختطفتها الموت فجأة..

وهران تفقد زهرتها

قالت الأستاذة نبيلة موساوي في حديث لـ "الترا جزائر"، إن مدينة وهران قد فقدت واحدة من أفضل كاتباتها، امرأةُ ثقافةٍ عُرِفت بنشاطها الكبير في هذه المدينة، كما أن خسارتها كبيرة في الساحة الأدبية المحلية والدولية.

وأضافت المتحدثة، أن أمينة مكاحلي كانت بالنسبة إليها امرأة غامضة ومتفتحة في ذات الوقت، ذات إحساس كبير ونادر، امرأة قليلة الحديث عن نفسها، عن عائلتها وعن حياتها الخاصة، لكنها كانت لا تبخل في منح وقتها بشكل سخي  للآخرين، كما أن شخصيتها تتلخص في أربع كلمات: الكرم، الإيثار، رهافة الحس والتقدير.

الكاتبة أمينة مكاحلي
الراحلة أمينة مكاحلي في إحدى الأمسيات الشعرية 

مدينة وهران حزينة جدًا، تقول الأستاذة موساوي، خاصة في تلك اللحظات التي تتحدث فيها إلينا، ساعات بعد وصول جثمان الراحلة إلى أرض الوطن، وإلى المدينة العزيزة جدًا على قلبها، أين ستدفن في مقبرة عين البيضاء، حيث يرقد العديد من الفنانين ورجال الثقافة الكبار، أمثال الأستاذ حاج ملياني، الشاب حسني والراحل مؤخرًا حزيم، إضافة إلى العديد من الأصدقاء، آخرهم أمينة التي لم يترك القدر فرصة أخيرة لتوديعها.

أفصحت  موساوي أن الراحلة أمينة مكاحلي كانت مريضة جدًا، لكن قلة من مقربيها كانوا يدركون المرض وفداحته ووطأته عليها، لا أحد توقع رحيلها المبكر المفاجئ والمؤلم.

مع ذلك، تؤكد الأستاذة أن أعمال الراحلة مكاحلي وكتاباتها ستخلدها، خاصة في الوسط الجامعي والثقافي عمومًا، ولحسن الحظ حسبها، يُخَلَّد الكاتب الراحل بامتلاكه لقراءٍ يمنحونه حياة أخرى ويوصلون إرثه إلى الأجيال القادمة.

الكاتبة أمينة مكاحلي

نسوية تهوى التعايش

في هذا اللقاء، قالت نبيلة موساوي إن أمينة مكاحلي كانت نسوية بعمق، وقد تبنّت حسبها كل قضايا المرأة، حتى ولو لم تفصح عن ذلك علنًا، مع ذلك، كانت ترفض أن توصف كتاباتها بمحاولات التحرر من القيود، لأنها كانت تعتبر الكتابة نوعًا من التعبير عن الذات داخل المجتمع ومواجهةً للنفس قبل كل شيء، كانت تُقدّر جدا القضايا النسوية، بنفس الدرجة التي قدَّرت بها قضايا التعايش وتقبل المختلف والتقدم جنبا إلى جنب مع الآخر لحل الأمور المجتمعية العالقة.

تتابع نبيلة موساوي حديثها في حسرة :

" لقد انطفأت أمينة، لكنها ستبقى حية فينا.

  لديّ ألم مُضاعفٌ إزاء فقدانها، لأن علاقتنا كانت استثنائية، لم نكن نتحدث كثيرًا، لكننا التقينا مرارًا في الملتقيات والمكتبات والجامعة، خاصّة في قسم اللغة الفرنسية، حيث لم تفارقها بسمتها الكبيرة.

"لقد كانت أيضًا من أقرب صديقات والدي، حتى أنها خصته بإهداء كتابها الأخير عرفانًا لوفائه لكتاباتها، فرحتها كانت كبيرة، فرحة تترجم حالة الكتاب والشعراء الذين لا يجدون من يقرأ لهم، كما لا يُنشر لهم بالشكل الذي يليق في الجزائر.

لقد كانت أمينة مكاحلي إنسانة تتقن الامتنان وتعيشه، ممتنة لمعلميها وللمثقفين وللحياة، امتلكت الشجاعة الكافية لمواجهة هذا المجتمع الذي تدركون صعوبته حتى آخر لحظة، امرأة قدست الصداقة والإنسان.. وهران فقدت زهرتها..".

الكاتبة أمينة مكاحلي
رحيل أمينة مكاحلي خلّف موجة من الأسى في الأوساط الثقافية الجزائرية 

امرأة تتحدث عن كونها امرأة..

تتحدث المترجمة الإيطالية تشينزيا ديمي في اتصال مع "الترا جزائر" بحزن كبير عن الراحلة، إذ قالت أن رحيل الشاعرة أمينة مكاحلي قد خلّف في نفسها جزعًا كبيرًا، حتى لو أدركَت مُبكرًا صعوبة المرض الذي عانت منه صديقتها، إلا أنها لم تستطع استيعاب عدم قدرتها على مقاومته والانتصار عليه.

أكدت تشينزيا ديمي في مُستهلّ حديثها أن ترجمة شاعرٍ، أو بالأحرى ترجمة قصيدة له، تكون دائمًا بمثابة فعلِ غوصٍ في روحه، وتعمقا كبيرًا في ذاته بغية معرفته عن قرب، وهذا بالضبط ما جعلها ترتبط روحيّا بأمينة مكاحلي.

  التقت المترجمة لأوّل مرة بالشاعرة الراحلة في مهرجان كرايوفا الدولي للشعر في رومانيا قبل بضع سنوات، هناك أدركت تشينزيا على الفور أنها شخص مميز، ما جعل ترجمة كتاب أمينة -كما قالت- "شرفًا كبيرًا بعث السرور في قلبها".

تحدثت تشينزيا عن هذا الكتاب الذي تكفلت بترجمته إلى اللغة الإيطالية، وتوقعت عرضه في أيلول/سبتمبر المقبل في إيطاليا، (إذا ما سارت الأمور على ما يرام).

 كان من المفترض حضور أمينة مكاحلي لمواكبة العرض والاحتفال بصدور الكتاب، لكن وفاتها جاءت بشكل مفاجئ ومحزن جدًا حسب تشينزيا، وقد أكدت أن العرض سيتم في أجله تخليدًا لذكرى هذه الشاعرة المتفردة.

عن أمينة، الشاعرة والمرأة، كتبت المترجمة تشينزيا ديمي في مقدمة العمل التي بعثت بنسخة منها لـ"لترا جزائر":

الكاتبة أمينة مكاحلي

( لم أُحسِن -مع ذلك- الأذى يومًا)

هذا بيتٌ شعريّ ينتمي إلى إحدى القصائد الأولى في مجموعة أمينة مكاحلي التي تَرجمتُ، مؤلّفٌ حمل عنوان "أحجار الصمت الصغيرة".

لقد لخص هذا البيتُ محتوى هذا العمل بشكل كبير، كما لمستُ فيه نية الشاعرة في تقديم القلب النابض للأرض، ورهافة حسِّ إحدى بناتها.

منذ بداية عملي على ترجمة نصوص هذا المؤلَّف، أو ربما قبل ذلك- أي منذ اللحظة التي التقينا فيها، أدركتُ أنني أتعامل مع صوتٍ من شأنه أن يُثريني من الداخل، إنها تحمل صوتًا يستحق الاستماع إليه، صوت يقدّر الإنسانية العظيمة التي ينتمي إليها، امرأة تعرف كيف تمنح هذه الإنسانية، وكيف تعكسها بلا كللٍ في كتاباتها.

أمينة مكاحلي امرأة، مؤلِّفة قوية وهشة في الوقت ذاته، عنيدة وخانعة، فريدة ومتضامنة: تحتوي نصوصها على جميع التناقضات والمخاوف، على اليقين والشك في زمنٍ يبدو فيه كل شيء محفوفًا بالمخاطر، على تاريخٍ قديم يتجدد أثناء محاولته عدم خيانة هويته، على ثقافةٍ مُشبعة بنسغٍ مختلف يُثريها ويُفقرها في ذات الوقت.

كانت أمينة قبل كل شيء، امرأة تتحدث عن كونها امرأة: مُحبطة، رحّالة، مُتحدة بالمشاعر البَنَوية، ومتجذرة في أصولها".

الكاتبة أمينة مكاحلي
امتاز شعر مكاحلي واختياراتها بحسها الإنساني الجامع

شخصية توافقية ذاتُ حِسٍّ إنسانيّ

من إيطاليا أيضًا، تحدثت الكاتبة أمل بوشارب عن أمينة مكاحلي، التي عرفتها قبل سنوات ضمن فعاليات "ملتقى كاتبات إفريقيا والمتوسط" (RAMAJ) الذي انعقد بالجزائر، حيث أخبرتنا في حديث لـ"الترا جزائر"، عن توطد علاقتهما على الصعيد الأدبي والشخصي بعد ترجمتها لقصيدة Lèvres sans timbre الفائزة بجائزة L.S Senghor بميلانو عام 2019، وقبلها قصيدة La presque morte برفقة المترجم الإيطالي سيموني سيبليو ضمن مشروع ITHACA الشعري الذي يشرف عليه الشاعر البلجيكي جيرمان دروغنبرودت.

أكدت أمل بوشارب أن اللافت في شخصية مكاحلي الأدبية، كان اهتمامها بنقل أعمالها للّغة العربية، واعتزازها بذلك بشكل ملحوظ، حيث أنها لم تكن معنيّة بحالة الاستقطاب التي تعرفها الساحة الجزائرية بين ثنائية الكتاب الفرانكفونيين والمعرّبين، بل كانت أمينة، حسبها، تتمتع بشخصية "توافقية" تتجسد في أشعارها من خلال قصائد ذات بعد إنساني جامع، تغرف من الجمالي لا من الأيديولوجي، إلا أنها مع ذلك كانت على وعي تام بأهمية اللحظة الشعرية لمرافقة الأحداث الاجتماعية والسياسية، لكن على نحو فني مرهف لا يسقط بالشعري في الخطاب المباشر والمبتذل.

الكاتبة أمل بوشارب: سنفتقد بعمق حسها الإنساني العالي وبصمتها المرهفة ليس في الساحة الأدبية الجزائرية فحسب بل العالمية أيضًا

أشارت الكاتبة أمل بوشارب إلى حرصها الشديد على التنويه لما سبق ذكره، في مقدمة خصت بها مجموعة أمينة مكاحلي الشعرية الأخيرة Les petits cailloux du silence الصادرة عن Puntoacapo  Editrice في إيطاليا بترجمة الشاعرة الإيطالية تشينزيا ديمي، وهي المجموعة التي حملت كل الألق الأدبي لأمينة مكاحلي.

أضافت أمل : "سنفتقد بعمق حسها الإنساني العالي وبصمتها المرهفة ليس في الساحة الأدبية الجزائرية فحسب بل العالمية أيضًا".