01-أبريل-2020

ظهر وباء الكوليرا في الجزائر تزامنًا مع الاحتلال الفرنسي (أ.ف.ب)

يُروى أنّه حين ضرب الطاعون فرنسا، لم يجد الفرنسيون ما يأكلونه، ونفدت بطون المخازن والمؤن، وعمّت رائحة الجثث شوارع باريس، حينها عمدت السلطات الفرنسية إلى إخراج الرفاة والجماجم من القبور والأقبية، لتطحنها وتمزجها مع الدقيق وتوزّعه على الفرنسيين، في ذلك العام أكل الفرنسيون عظام أجدادهم دون أن يعلموا.

تحتلف الروايات حول الإطار الزماني لعام التيفيس أو التيفوس، وهو مرض لا علاقة له بمرض التيفوئيد كما يظنّ البعض

في الجزائر أيضًا، مثل هذه القصص ليست خيالًا علمياً، ولا روايات مُتناقلة؛ بل هي جزء من ذاكرة الجدّة محجوبة، التي تسيل من فمها حكايا لا تنتهي حين تبدأ في استرجاع ذكريات والديها مع الطاعون أو التيفيس. حين كان الجزائريون يُتركون للموت، ويسقط الأشخاص جثثًا هامدة، مرحلة عصيبة وذكريات طفت إلى السطح، بعد أنّ حلّ وباء كورونا وأخذ يخطف الأرواح دون سابق إنذار.

اقرأ/ي أيضًا: في أثقل حصيلة منذ انتشار الوباء.. 9 وفيات و132 إصابة جديدة بكورونا

عام التيفيس

 درِج الجزائريون على تسمية العام بالحدث الأبرز فيه، فكان من ذلك عام الرّز، وعام المشينة، وعام البو، عام الشّر، وعام لالمان وغيرها، ولكن يبقى أبرز ما رسخ في الذاكرة الشعبية للجزائريين هو عام التيفيس، الذي يشير إلى أقسى تجربة إنسانية عاشتها الجزائر، حين داهمها وباء التيفيس أو التيفوس، ولم يجد الميت حيّا يتبرّع لدفنه.

تروي الجدة محجوبة ما نقله إليها والدها الذي عاصر عام التيفيس، فتقول: "لقد كنتُ فتاة صغيرة في تلك الفترة، كلّ ما أعلمه عن هذا الوباء هو القائمة الطويلة لأفراد العائلة الذين قضى عليهم الوباء، لقد كان والدي يقصّ علينا قصصهم والدموع على خديه، كان عاملًا في مزارع الكولون الذين قدموا إلى القرية، لكنه تحوّل في تلك الفترة إلى حفّار للقبور".

تصف الجدّة بعض المشاهد: "كان الموت يحصد مئات الضحايا يوميًا، لقد كان زمن الجنازات والمقابر الجماعية.. كانت الجثث تكدّس فوق عربة تجرّها البغال والحمير، أو أحصنة الكولون، ليكون مصير تلك الجثث حفر عميقة، كي لا يعود البلاء وينتشر منها، لقد كان بلاءً لا يمنح حتّى دفنًا رحيمًا".

تختلف الروايات حول الإطار الزماني لعام التيفيس أو التيفوس، وهو مرض لا علاقة له بمرض التيفوئيد كما يظنّ البعض، فهناك من يقول أنه ضرب الجزائر في عشرينيات القرن الماضي، وبالضبط في عام 1921، فيما تناقلت روايات أخرى أن عام التيفيس صادف عام 1945، فيما تنسبه بعض الشهادات لفترة الثلاثينيات.

لقد أجمعت كل الروايات، ومنها رواية الجدّة محجوبة أن عام التيفيس زاد من وطأة الوضع لدى الجزائريين، بعد أن أتى في عام جفاف وقحط، فشحت فيه السماء فلم تمطر لأشهر، ولم يجد الجزائريون ما يأكلونه إلا البلوط وبعض الحشائش، وكانوا يخلطون البلوط ونجارة الخشب مع الدقيق، فيما كان آخرون يعزلون أنفسهم ينتظرون الموت بعد أن أصيبوا بالتيفيس. تستطرد الجدة محجوبة "كان والدي وبعض أهل القرية لا يغادرون المقبرة، فما إن يُدفن شخص إلا ويحلّ خبر وفاة شخص آخر".

أوبئة فتّاكة..

حين كان الجزائريون تحت وطأة الاستعمار الفرنسي، كانت الأوبئة والمجاعات تلازم حياتهم، فقد كانت تستمر لفترات طويلة، وتأتي على فترات متقطعة. لقد نقلت كتب التاريخ مأساة الجزائريين مع التيفيس والطاعون والكوليرا والجدري وأوبئة أخرى.

ظهر في السنوات الأولى من قدوم الاحتلال الفرنسي وبالضبط عام 1934 داء الكوليرا في مدينة وهران، وحسب كتاب "تاريخ الأوبئة في شمال أفريقيا" لجون لويس جونفياف، فإن عدوى الكوليرا نقلها مسافرون جاؤوا من إسبانيا على متن باخرة، فعمّ الوباء مدينة وهران، وفتك بروح 1475 شخصًا، وكان انعدام النظافة وسوء التغذية مناخًا سمح للكوليرا بالانتشار.

وفي سنة 1835 ضرب الوباء الجزائر العاصمة، بعدما نقله مسافرون جاؤوا من مرسيليا، أما في قسنطينة فكانت الأرقام كبيرة جدًا، بعد أن بلغ عدد الضحايا 14 ألف وفاة . وقد عادت الكوليرا لتضرب الجزائر مجدّدًا خلال الحقبة الممتدة من 1920 إلى 1950.

وحسب المصدر نفسه، فإن الجزائر كانت عبر تاريخها عرضة لمثل هذه الأوبئة والأمراض، فقد شهدت الجدري والطاعون الذي كان الجزائريون يلقبّون به أيّ مرض فتّاك، لقد ساهمت همجية الاستعمار الفرنسي والأوضاع المزرية التي كان يعيشها الجزائريون على تفشي الأمراض، فخطف الجدري مثلًا حوالي ألفي شخص في قسنطينة، و500 في المدية عام 1846، إضافة لعشرات الآلاف من الجزائريين الذين وضعت الأوبئة حدّا لحياتهم، وقد كانت بعض الأمراض منتشرة عالميًا آنذاك، وساعد في انتشارها إصابة بعض الفرنسيين الموجودين على الأراضي الجزائرية، أو بعض الجزائريين الذين عادوا من الحرب العالمية الثانية، أو من تجنيدهم الإجباري في الجيش الفرنسي.

الدكتور روكس: لو استمرت الوفيات بالوتيرة نفسها، فإن أهالي الجزائريين سينقرضون لا محالة

أتى في مذكّرات الطبيب الفرنسي الدكتور روكس: "عندما وصلنا عام 1830 للجزائر قدرنا أهلها بـ 3 ملايين، لكن أسفر الإحصاء السكاني الأول الذي أنجزناه سنة 1866 عن 2.6 مليون نسمة، أما الإحصاء الثاني المنجز سنة 1872 فقد قدر عدد السكان بـ 2.12 مليون نسمة أي بفارق 874949 نسمة في غضون 42 سنة، أي بمعدل وفاة بلغ عشرون ألف شخص في السنة، بسبب التيفيس والمجاعة والمقاومات الشعبية، لو استمرت الوفيات بالوتيرة نفسها، فإن أهالي الجزائريين سينقرضون لا محالة".

 

اقرأ/ي أيضًا:

الاستنجاد بتبرّعات المواطنين لمواجهة كورونا.. خطوة تثير الهلع والسخرية

البليدة.. مدينة الورود التي تُقاوم الوباء