22-يونيو-2022
الكاتب عبد العزيز بوباكير (فيسبوك/الترا جزائر)

الكاتب عبد العزيز بوباكير (فيسبوك/الترا جزائر)

كثيرون لم يعرفوه عن قرب، فقرّبتهم إليه كتاباته الجريئة حينًا واللاّذعة أحيانًا، السّاخرة كثيرًا والقيّمة أكثر، والمنتقِدة مرة والنّاقدة مرّات، والملهِمة تارة والمذكٍّرة تارة أخرى، بعضهم يراه متمرّدًا، بينما يحكم عليه آخرون بالإعدام. وصفوه بالغائب عن اللّحظة، بينما وسمه البعض بوسام شرف المهنة والمهنية، لا يرفع صوته فهو البسيط والهادئ، الذي يملك صوت القلم، عندما يكتب باللغة العربية كأنه ينحت تحفة فنية ينثر عبرها الحقائق والحجج والبراهين، فأعطى لنفسه هيبة المعلِّم والإنسان.

كان قلمه يحدث ضجيجًا كلّ مرة، وعلى قدر هدوءه واحترامه للآخر، بسيط في نظرته للأمور وعميق في تعاطيه مع الأحداث

قد تكون الشّهادات الحيّة لزملائه من الكتاب الكبار والأقلام الفذة والروائيين والأدباء والشعراء والصحفيين الذين اشتغلوا تحت رئاسته مجروحة، لكن يبقى الأثر والمهنية التي تحلى بهما هي لغته اليومية، حتّى وإن خالف البعض في أفكارهم وتوجهاتهم إلا أنه يستحقّ لقب "الأستاذ" الذي رفض الكثير من المزايا والهدايا والإكراميات؛ لأنه حاول طيلة سنوات اشتغاله أن يحافظ على فكرة أن تشتري كل صباح حريتك وبقلمك ودون فضل من أحد.

"تبقى السّنوات الأولى من الدراسة راسخة في كلّ الأذهان، بل هي البلسم الشافي لكلّ جروح معترك الحياة، هي الحياة فرقتهم وجمعتهم الظروف أحيانًا ولملمت أوجاعهم فرحة كتاباتهم التي انتقلت من زمن إلى زمان ومن مكان إلى مكان"، هذه الكلمات التي نطق بها الرّاحل وهو يعود لمسقط رأسه مدينة جيجل شرق البلاد، جوهرة السّاحل الشّرقي للبلاد، ومدينة الطفولة والشباب وطيش البدايات، وهو يضحك ضحكته الخجولة جدًا، يستذكر فيها أيام جمعه لحقيبة الدراسات العليا، لم يترك في المدينة سِوى فكرة أينما غرسها أينعت وأطلّت ثم أزهرت وأيقظت الآلاف من العُقول. 

الفقد موجع لزميل الدراسة، ويؤلم كثيرًا لأن الشراكة بين العقول والأرواح لا تحدّها الأرض والجغرافيا والسنوات، إذ اعتبر أستاذ الإعلام البروفيسور محمد قيراط، أن رحيل بوباكير "فقدًا وخسارة للجامعة الجزائرية والبحث الأكاديمي والإعلام عمومًا"، إذ قضى الراحل جولة كبيرة في الكتابات الصحفية ناهيك عن كونه خبيرًا في الأدب الروسي إضافة إلى اتقانه للغة العربية والفرنسية.

زملاء الدراسة، كثيرًا ما تكون شراكتهم أعمق وأكبر وأنقى من الناحية الإنسانية، فالأستاذ قيراط كان دومًا يزور الراحل في مكتبه بـ"الخبر الأسبوعي" بل ويشارك مرّة على مرّة في اجتماعات جهاز التّحرير (غرفة الأخبار والتحقيقات)، وهي ميزة الراحل بوباكير بأن يعطي للأساتذة قيمتهم العلمية في مشاركة أطروحات الصحافيين والإدلاء برأيهم بعيدًا عن نظريات الإعلام وقريبًا من الميدان.

في هذا المضمار، ذكر الأستاذ جمال علاهم، زميله في الدراسة بالجامعة لـ"الترا جزائر"، أن الراحل أشرف خلال سنوات التعليم الجامعي على عدة مشاريع التكوين، إذ كان مديرًا لمعهد التعليم المكثف للغات بجامعة الجزائر، وأشرف على عدة دورات في تكوين منهجية تدريس اللغات بفرنسا وروسيا، ثم تقلد منصب رئيس تحرير بجريدة "الخبر الأسبوعي" و مجلة "معالم" الصادرة عن المجلس الأعلى للغة العربية، كما كتب للأهرام المصرية، وغيرها من المجلات العربية.

في المجال الأكاديمي دائمًا، اعتبر الأستاذ كريم دواجي رئيس قسم الإعلام بجامعة الجزائر، بأن الأستاذ بوباكير صاحب التجربة المتعددة الألوان والبصمات إذ هو الطالب والأستاذ والإعلامي والمترجم والمحلل"، وقال دواجي في تدوينة على صفحته الفيسبوكية لإن فقدانه يعني فقدان "واحدًا من خيرة أساتذة الجامعة الجزائرية ذو المرجعية المتميزة ".

سافِر معه

حديث الراحل عن الترجمة والأدب والمسرح والفلسفة والتاريخ والسينما والسياسة لا يمل منه أحد، إذ وصف الصحفي المخضرم فيصل مطاوي الرجل بـ" الموسوعة"، إذ سبق له وأن رافقه في زيارة إلى دولة الكويت للمشاركة في ندوة دولية من تنظيم مجلة "العربي" حول علاقة العرب بالقارة الأسيوية.

 

أتذكر جيدا الرحلة الجميلة التي قمت بها منذ سنوات الى الكويت رفقة الأستاذ عبد العزيز بوباكير حيث شاركنا في ندوة دولية من...

Posted by Fayçal Métaoui on Tuesday, June 21, 2022

وأضاف مطاوي عن هذه الذكرى، أنه  تعلّم أشياء كثيرة من الأستاذ وصوّب من خلاله  بعض المفاهيم، كما فتحت آفاقًا جديدة"، فرحيله سيترك فراغًا كبيرًا في المجال الفكري والثقافي.

أما الصحفي في جريدة "الخبر" حميد غمراسة، فقال إن الراحل بوباكير "كان من الناس الذين تشعر بالاطمئنان لوجودهم في هذه الدنيا". الصحفي غمراسة ممن طحنتهم فكرة "حرية التعبير " شارك الراحل في الكثير من المناسبات، وخاصة في خرجاته خلال الحراك الشعبي 2019، رغم أنه كان مريضًا إلا أنه أبى إلا وأن ينزل للشارع، وأن يكون شاهدًا على حركة وحدث، وأن يستمع لجموع المحتجين وأصوات المطالبين بالتغيير، ويقرأ شعاراتهم بعينيه، لأن كتاباته تفوح منها رائحة الصدق والموضوعية.

كتابات مثيرة 

تمكن الأستاذ من أن يصنع الجدل في كذا من مرة، لقربه من المسؤولين في فترات متواصلة من حكم الرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة، وأفلح في طرح الأسئلة التي تستحقّ الإجابات، ووصفه كثيرون بأنه "مرجعية سياسية وتاريخية" فكتب العديد من الكتب وترجم بعضها.

أخرج للنور ترجم عن الروسية: "الانتيليجنتسيا في بلدان المغرب"، و"أفكار ونزعات فلاديمير ماكسيمنكو"، و"جيش الثورة الجزائرية يوري كوندراتييف"، و"النخبة الجزائرية في مطلع القرن العشرين"، و "مذكرات أحمد طالب الإبراهيمي عن الفرنسية"، وغيرها.

كما أخرج للنّور " كتاب" الأدب الجزائري في مرآة استشراقيةو "الجزائر في عيون الآخر"، و"الجزائر في الاستشراق الروسي" و" كارل ماركس في الجزائر" و"19جوان انقلاب أم تصحيح ثوري؟" و "بوتفليقة رجل القدر"، فضلًا عن الجزء الأول من "مذكرات الرئيس الشاذلي بن جديدّ" وغيرها فضلًا عن مخطوطات لكتب لم تر النور بعد.

تخلّص من القوالِب

قد تكون الشهادة مجروحة، لمن تتلمذ على يده وتعلّم الكثير من تفاصيل الصحافة من خلال نقاشاته الهادئة والذكية والمفتوحة على اللامحدود، وقد تكون رسالته اليومية أن تتفطن للموضوعات الرمية في الطرقات، ولا ضير في أن تعيد إنتاج الفكرة ولكن من زاوية جديدة.

الأستاذ بوباكير يودّع الجزائر في صمت وهو الذي كان قلمه يحدث ضجيجًا كلّ مرة، على قدر هدوءه وعلى قدر احترامه للآخر، بسيط في نظرته للأمور وعميق في تعاطيه مع الأحداث، كان يملك الكثير من التوابل التي تغذي روحه يوميًا، لأنه المترجِم الذي تمكّن من استيعاب الآخر بمختلف الألسن واللغات، فاختص في الأدب الروسي ولم تخنه ذاكرته أبدًا في العرفان والامتنان لكل من كانوا معه في فترة السبعينات والثمانينات، فكان يكرم زملاءه الأساتذة الذي اختاروا الهجرة بطريقة التلميذ الذي يستقبل أساتذته في قاعة تحرير " الخبر الأسبوعي"، فكان يلهم الصحافيين بأسماء الكثيرين، وهذا لا يحظى به الصحافيون اليوم.

ولأنّه الأكاديمي الباحث والكاتب والصحفي والنّاقد والأستاذ المعلّم والملهِم، ابتكر طرقًا كل لحظة في التّعاطي مع الموضوع الرئيسي في العدد الكامل لصحيفة "الخبر الأسبوعي" وللصفحة الأولى لما تحمله من عناوين وربما عنوان واحد يكفي، حتى وإن كلفته العودة إلى كتب قديمة واستخراج مناجم المعلومات وتأطير الصحافيين في ذلك الزمن 2000-2005، ولم ير فيهم سوى زملاء مهنة وجب دفعهم للعمل.

"العُنوان عُلوان": عبارة ترسّخت مع مرور الزمن والفترة التي قضيناها تحت رئاسته الإبداعية، ابتكر عملية خلق عنوان الصفحة الأولى بأوراق بيضاء توزع على مختلف أعضاء هيئة التحرير، وكل يدلو بدوله فيما تعلق باقتراح عنوان فرعي وآخر رئيسي للصفحة الأولى، وبعدها نصنع الخليط الذي سيكون علوان العدد من كل يوم خميس أو يوم أحد، فكان آخر عنوان وأول عنوان يفضله أن يكون صورة كبيرة وكلمة.. "، بإمكانك أن تكتب ألف كلمة حول موضوع ولكن من المجهد والمضنى أن تضع لها عنوان من كلمة، هنا قمة الإبداع والأمانة المهنية".

بوفاة الأستاذ عبد العزيز بوباكير عن عمر ناهز الـ65 سنة، تخسر الجزائر جزء ًامن تاريخ السياسة والإعلام، إذ كان منظوره للحياة السياسية في عزّ الأزمات التي عاشتها الجزائر خصوصًا منذ سنة 1999، تاريخ وصول الرئيس الأسبق عبد العزيز بوتفليقة إلى الحكم سوى مرحلة وجب التمعن في تداعياتها، فكتب عموده أو قصاصته الصغيرة التي أطلق عليها عنوان:" تداعيات" تصدرت المساحة السّفلية من الصفحة 24 والأخيرة من جريدة " الخبر الأسبوعي"، إذ كانت مساحة  لا يتجاوز عدد كلماتها 350 كلمة، لكنها كانت تستقطب مختلف فئات المجتمع الجزائري، بل مختلف أجهزة النّظام آنذاك تطّلع على ما يكتب "السي عزيز".

أسماء مرّت من هنا

حاد الأستاذ بوباكير عن "النّهج الإعلامي" تارة فصنع للكتابة قالبًا جديدًا، فلم يحبّذ أن يُسجن الصّحفي في قالب من القوالب الصحفية أو الأنواع الصحفية أو الأجناس الصحفية التي أبدعها أساتذة الاعلام والاتصال (مختلف منظّري العلوم الاجتماعية والإنسانية) فانتج قالبا جديدا ترك فيه الحرية للصحافي في أن يكتب بالطريقة التي يحبّ وبالشغف الذي يستهويه، دون أن يفرط في المعلومة المقدسة ومصادرها، فجادت مساحة الحرية التي منحها للصحافيين آنذاك بكتابات إبداعية لكل الزملاء الآتية أسماءهم: آمال فلاح، على رحايلية، فوزي سعدة الله (رياض أمين)، سامية بلقاضي، وغيرهم من الزملاء الذين مرّوا على هيئة التحرير.

وحاول أن يتمسّك بميثاق شرف الصحافيين، تارة أخرى، إذ كانت تلك الوثيقة التي لازالت لحدّ اللحظة في إطار معلقة في أحد أروقة مؤسّسة "الخبر"، فلم يسمح يومًا بتجاوزه حتى في صراعه الكبير في قاعة التحرير بين الفكرة والفكرة والحجة، لم يسمح أبدًا أن يتمّ الخلط بين الخبر والتعليق، فهما نوعان صحافيان لهما أبجديات والتزام حقيقي بين الصحفي والقارئ: الأول مقدس والثاني حرّ وبين القداسة والحرية بون شاسع اسمه احترام القارئ والمعلومة والخدمة العمومية.

عندما يتكلم الكبار ينصِت الصغار، في حوادث بسيطة، كان الأستاذ بوباكير يستضيف زملاءه من الأساتذة والدكاترة ومسؤولين من النخبة الجزائرية في مكتبه البسيط، ويعرفه بالصحافيين فردًا فردًا ولا يزعم ولو لمرة أنه يعرف بل يترك الحرية للصحافي أن يدلي بدلوه دون همس أو لمز. 

لاذع القلم

"تداعيات" الراحل عمود صحفي بسيط ولكنه نال قسطًا كبيرًا من الاهتمام والانتباه والعناية والانتظار من مختلف شرائح القراء في البلاد، بأسلوبه البسيط والممتع، خاصة عندما كان يدغدغ المسؤولين بحقائق يملك عنها معلومات موثقة، وكتب عن بوتفليقة وكبار المسؤولين في عزّ قوتهم وجبروتهم، إلا ويلقى الكثير من الجدل من مختلف الأصوات التي تعارض الكلمة الحرّة، أو تهمس له بخفض سقف المعلومة مقابل التّعليق أو كما يقول: "دسّ السمّ في العسل" وذلك لا يليق بمن يكتب دون واقي الرصاص.

كتب "بوتفليقة رجل القدر" التي جعل منها سلسلة نشرها في أحد كتبه بنفس العنوان، وبسرد شيق وأسلوب مبتكر، يحمل بين دفتيه أفكار وتأملات عن منظومة الحكم ونظرته إليها في علاقة بين الرئيس والجيش خلال ولايته الرئاسية الأولى، فيما نشر بقية المقالات بعدما تفرّغ للكتابة فقط.

كتب مذكرات الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد، وتوقّف عند الجزء الأول، في انتظار إخراج الجزء الثاني الذي خلق جدلًا واسعًا، قال عنها الراحل إنه تلقى متاعب كثيرة من الراحل بوتفليقة واللواء خالد نزار بخصوص هذه المذكرات. 

يكفي أن الراحل بوباكير أنجب الكثير من الأمل لجموع الصحافيين من جيل لازال يصارع حتى اليوم

لا شيء يكتمل، ولا أحد يكتب لقَدره، يكفي أن الراحل بوباكير أنجب الكثير من الأمل لجموع الصحافيين من جيل لازال يصارع حتى اليوم، كما ربّى العديد من القواعد التي يسلكها كل من أراد أن يحمل فكرة عابرة. كما كان يردّد: "المواضيع مرمية في الطرقات فعلى من يريد أن يحمِل أن يحمِل".