20-مايو-2019

مشهد من فيلم "بابيشة"

انتهى العرض الذي دام مدة ساعة و46 دقيقة. أُشعلت الأضواء، وقام الحضور يصفقون لدقائق طويلة وسط فرحة عارمة للممثلات؛ هكذا كان المشهد في مهرجان كان السينمائي بعد عرض فيلم "بابيشة" للمخرجة الجزائرية منية مدّور، المشارك في مسابقة "نظرة ما" في النسخة الـ72 للمهرجان السينمائي العريق.

يعرض فيلم "بابيشة" لفئة كانت من بين أكبر المتضررين من عذابات فترة العشرية السوداء، وهي فئة النساء

لطالما كانت فترة التسعينات من القرن الماضي مصدر الإلهام الأبرز للأعمال الفنية في الجزائر، ولطالما شكّلت العشرية السوداء مادة سينمائية دسمة واظب المخرجون الجزائريون على الاشتغال عليها. 

اقرأ/ي أيضًا: هل أساء فيلم أحمد راشدي الجديد للثّورة الجزائرية؟

بل لا يكاد يخلو أي فيلم سينمائي من طرح الموضوع بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، خاصة أن ملفات العشرية السوداء قد تم غلقها سياسيًا بعد استفتاء المصالحة الوطنية، لكن في الواقع لا تزال جروح تلك المرحلة لن تندمل بعد ولا زالت بعض الأسئلة الحارقة لم تجد جوابًا مقنعًا لأسوء مرحلة مرّت بها الجزائر بعد الاستقلال.

فيلم بابيش

كفاح ناعم

في فيلم "بابيشة" الذي يُعد إنتاجًا مشتركًا بين الجزائر وبلجيكا وفرنسا، اختارت منية مدّور في أول فيلم طويل لها، أن تلتفت إلى شريحة كانت من بين أكبر المتضررين من عذابات فترة الإرهاب في الجزائر، وكانت أكبر المستهدفين من طرف المتطرفين، هي شريحة النساء، لذلك اختارت لفظة "بابيشة" الدارجة بين الشباب ويقصد بها الفتاة الجميلة، لتكون لقبًا لـ"نجمة" بطلة الفيلم التي تروي شخصيتها حكايات فتاة جامعية تسكن في الحي الجامعي. 

كما أن "بابيشة" هي عين تنقل لنا الحزن العميق الذي كان تعيشه المدن الجزائرية في تلك الفترة متّخذة من مدينة تيبازة الساحلية إطارًا مكانيًا للقصة وأحداثها.

فيلم بابيشة
بطلات الفيلم في مهرجان كان

نجمة فتاة في الـ18 من عمرها، لا تبالي بالخوف الذي يحيط بها، وتعيش من أجل حلمها الوحيد بأن تصبح مصمّمة أزياء مشهورة. شخصية تقمّصتها الممثلة الشابة لينا خودري، والتي شاركت دور البطولة مع ثلاثة نساء أخريات، وهي ميزة فيلم بابيشة حيث اعتمدت المخرجة على طاقم تمثيل مشّكل أساسًا من النساء، ووقع اختيارها على كل من شيرين بوتلة، وهيلدا دواودة، وزهرة دومانجي ونادية قاسي، وأسماء شابة في عالم السينما الجزائرية شكّلن صورة عمّا كانت عليه الجزائر عام 1990.

انطلق الفيلم من وقائع حقيقية عاشتها كل العائلات الجزائرية خلال العشرية السوداء، من تطرف طال النساء في منازلهن حيث فرض على الكثير من الجزائريات لبس الحجاب والنقاب تحت طائل التهديد من طرف المتطرفين. أرادت نجمة وصديقاتها كسر هذه القاعدة، وتحدين التهديدات بخروجهن بما يحلوا لهن من ملابس. فتيات يحاولن أن يعشن الحياة بكل طاقتهن الإيجابية.

فيلم بابيشة
بطلة الفيلم الممثلة الشابة لينا خودري

مع مرور الأيام صعد التيار المتطرف في الجزائر وازدادت قوته، فراح شباب يعلّقون لافتات على جدران الحرم الجامعي، يطالبون الطالبات بارتداء الحجاب، فيما يُظهر مشهد من الفيلم اقتحام طالبات منقبات لغرفة نجمة وصديقاتها من أجل مطالبتهن بالتحجب وأداء الصلاة مع الطالبات قبل فوات الأوان.

ويُظهر مشهد آخر أستاذًا جامعيًا يلقى محاضرته باللغة الفرنسية في المدرج، يتكلم فيها عن علاقة الإنسان بمجتمعه، شارحًا للطلبة أن العيش لم يكن أبدًا محاربة للآخر، وإن اختلفنا معه في التفكير. 

في تلك الأثناء تدخلت مجموعة من الطالبات المنقبّات ليوقفن المحاضرة، ويتوجهن بكلام للأستاذ قائلات: "لعن الله قومًا يتكلمون اللغة الأجنبية"، ويحاولن الاعتداء عليه. يُظهر المشهد تعجب نجمة وصديقاتها ممّا يحدث، في صورة عن الصراع الذي يعشنه وسط مجتمع ملغّم بموجات التكفير وعمليات القتل والاختطاف والتهديد.

الحايك يكافح الإرهاب

لم يمنع الحزن الذي يخيم على الجزائر نجمة من مواصلة حلمها. كانت ترسم تصاميمها في كل مكان. لكن موجة الاغتيالات طالت عائلتها مباشرة بعد أن قامت إمراة منقبة بطعن شقيقتها ليندة بخنجر لتتركها جثة هامدة أمام منزل العائلة. 

فهمت نجمة أن ما حدث بمثابة تهديد لها ورسالة مباشرة من الجماعات المتطرفة، فقررت العدول عن مواصلة مشروعها معلنة الاستسلام أمام قوة الموت. لقد تمكّن هؤلاء من كبح حلم فتاة في عمر الزهور. إنها صورة عن آلاف الأحلام الجزائرية التي أجهضتها السنوات السوداء.

لكن صديقات نجمة لم تتقبلم فكرة تخليها عن حلمها، حتى أنهن ساعدنها في إقناع مديرة الإقامة الجامعية بتنظيم عرض أزياء مصنوعة بالكامل من الحايك.

فيلم بابيش

 اتسّم الفيلم بتفصيل دقيق متعمد من طرف المخرجة، وهو ظهور الحايك في عدّة مشاهد، في رسالة واضحة من منية مدّور بأن هذا اللباس الجزائري التقليدي الذي كانت ترتديه النساء قبل ظهور البرقع في العشرية السوداء، والذي طمس جزءًا كبيرًا من الهوية الجزائرية.

ظهر الحايك في عدة مشاهد من الفيلم، في رسالة واضحة بأن هذا هو اللباس التقليدي للجزائريات قبل ظهور البرقع

حضّرت نجمة عرضها، لكنه كان هدفًا لعملية مسلّحة خربته بالكامل. لم يقضي الاعتداء على تصاميم نجمة فقط، بل كاد أن يقضي على حياتها، حيث نجت يومها بأعجوبة من الموت. لينتهي الفيلم الذي سيضاف للأرشيف المصوّر لفترة حزن سوداء لم تنمحِ من أذهان الجزائريين.

 

اقرأ/ي أيضًا:

متى ستُوثق السينما الجزائرية لجزائر الحاضر؟

فيلم "البئر".. هل يمنح الجزائريين أوسكار؟