لاتزال "أَلَمُوذْ نِيمَسْلاَنْ"، وتعني " عادة المسلان" مستمرة في جل ولايات الأوراس كباتنة وخنشلة وأم البواقي وتبسة، وبسكرة، ومعروفة في بعض مناطق سوق أهراس وقالمة، حيث يلتقي الأهل في عشاء يعقد وجوبًا في ثاني أيام العيد.
يلتئم شمل العائلة المتفرقة في سائر الأيام حول مائدة القربى، المشكّلة من طبق كسكس يزدان بقطع اللحم الوفيرة التي تقطع من أسفل ظهر الأضحية ناحية الحوض، المسمى " المسلان"، لتكون لا مجرد مائدة طعام بل مائدة محبة
يلتئم شمل العائلة المتفرقة في سائر الأيام حول مائدة القربى، المشكّلة من طبق كسكس يزدان بقطع اللحم الوفيرة التي تقطع من أسفل ظهر الأضحية ناحية الحوض، المسمى " المسلان"، لتكون لا مجرد مائدة طعام بل مائدة محبة، تكرس في مظهرها البعد الاجتماعي للدين، كما لو أن اليوم الأول للعيد منذور لتقديم قربان لله، فيما يكون ثاني يوم مخصص لتعزيز القربى بين البشر.
نفير نسوي
ينشغل الناس طيلة اليوم الأول لعيد الأضحى بأعباء ذبح وسلخ الأضحية، وتمليح الجلود، لذا تتعذر الزيارة فيه للجهد الذي يستنزف القائمين على تلك المهام الأولية، كما لا يُتناول من الذبيحة غير الأجزاء السهلة منها والتي لا تتطلب جهدا أو وقتا في الإعداد، وفي هذا الصدد تقول السيدة سليمة رحال، أستاذة في التعليم، لـ "الترا جزائر": " في منطقة الأوراس عموما طبقان مميزان خلال عيد الأضحى، الأول هو جزء من الكبد أو طبق البولفاف، أي الكبد الملفوف في الشحم والذي يطهى شواء في سفافيد أو في مقلاة، و الثاني هو طبق المسلان الذي يتطلب استعدادا وتحضيرا خاصين بما أنه يتجاوز العائلة الصغيرة إلى العائلة الكبيرة التي تتجند لهذه الوليمة الجامعة".
تقتضي عادة المسلان أن يطهى اللحم ليقدم في بربوشةأو كسكسي معد بطريقة ممتازة، ويفضل أن يكون هذا الطعام مفتولا في البيت وفتل الكسكس يتطلب في العادة" تويزة " تقام مرة أو مرتين في العام، وتستدعى لها القريبات من نفس العائلة، كي يتم تحضيره كعولة مستعملة وقت الحاجة، خاصة في الأعراس، وقد يخلف جزء منها، أو تعد أخرى جديدة موجهة للأعياد الدينية مثل عيد الأضحى المبارك، لتوفر اللحوم.
تعقّب السيدة رحال بخصوص موضوع الحال قائلة:" يقتضي التقديس الديني لهذا العيد، أن تقدم المرأة أطيب ما عندها، فمعلوم أن الأضحية المتقرب بها إلى الله الطيب يجب أن تكون طيبة، خالية من العيوب والأمراض، كذلك تُعد البربوشة الجيدة باللحم الجيد، فأجود أنواع الأضحية كما هو معلوم الكتف والمسلان، كما أن الطابع العائلي لعادة المسلان، تفرض على الطاهية أن تحرص على تقديم الأجود تجنبا للانتقاد أو الثلب أو الانتقاص مهما كان، فهي عبارة عن منافسة حبية لا تخلو من المشاكسة الإيجابية وإظهار المهارة مثلما جرت العادة في اللمات النسائية".
وليمة تساهمية
تكتسي عادة المسلان طابعًا تساهميا بين العائلات المشتركة في القرابة من حيث اللقب، فتعد كل أسرة حصتها من لحم المسلان الذي يطهى مع الكسكس بالخضار والفلافل، عصرا ليكون جاهزا لموعد اللقاء بين صلاتي المغرب والعشاء حيث تتوسط الوليمة الوقتين، وفي هذا الصدد يقول عبد الله بوعبدالله لـ "الترا جزائر": " جرت العادة أن تعد زوجتي سهمنا من الكسكس واللحم، لنحملها مع أطفالنا راجلين في صحون كبيرة وطناجر متوسطة لبيت عمي سعو بما أنه كبير عائلتنا. وهناك نلتقي مع أبناء عمومتي وأخوالي الذين يأتون بحصتهم مرفوقين بزوجاتهم وأطفالهم ليتحول اللقاء برمته إلى محفل خاص بطائفة العائلة الواحدة في هذه المناسبة الدينية".
يُضيف شارحًا: " يقدم الطعام المشترك للجميع، فلا يدري أحد من أي طبق أكل، ما يعني أن الأمر يتعلق بمبدأ أساسي في الحياة هو التشارك والمشاركة وبالمختصر المفيد تحقيق صلة الرحم".
ليستطرد بشيء من الحسرة:" طبعا هذه العادة شهدت انحسارا في السنوات الأخيرة، والسبب أن كبار السن الذين دأبوا على لم الشمل رحلوا عنا، فانفرط عقد اللمة. في موقع ما أعتقد أن تخلي بعض الناس عن هذه العادة التي أحرص على الحفاظ عليها وتلقينها للأبناء، واحد من أسباب تدهور صلة الرحم بين العائلات والقرابات، وهي علاقات تبلى كما يبلى الثوب، ولا تتجدد سوى بالتزاور والتلاقي، الذي يسهم في طي العداوات والأحقاد وسوء الظن ويوثق أواصر التسامح والتصالح خاصة مع طروء الخلافات حول التركات والمواريث والعقارات المشتركة على الشيوع وفي أراضي العرش".
تساهم هذه الطريقة في تلاقي الرجال والنساء والأطفال ما يسهم في تكوين علاقات متينة في إطار عائلي، كما لو أنها لبنة من لبنات المجتمع الذي سعت الديانة المحمدية إلى تشييده عبر الإخاء بين المهاجرين والأنصار، لكنها لا تُعدم من روح الدعابة من قبيل المقارنة بين طهي الزوجات أو حسن اختيار الأضحية ذات اللحم الطري والجيد.
تشبيك أُفقي
في أقاليم أخرى، مثل قرى منطقة الجبل الشرقية مثل أينوغيسن حيث عرش بني بوسليمان، و في مدن سهل بلزمة وتحديدا عاصمته مروانة غرب الأوراس، تكتسي عادة المسلان طابعا أكبر من العائلة لتوحد العرش أو القبيلة الواحدة ثم لتتجاوزه إلى أعراش أخرى، بمعنى تحولها من هيكل عمودي يخص العائلة إلى نمط أفقي مترابط مع أسر مماثلة.
وهنا يشير آدم بوبشيش الناشط الجمعوي لـ "الترا جزائر": " في منطقة أيث منعة تكتسي العادة بعدا مجتمعيا خاصا بالعرش، حيث تشارك نساء كل عائلة في طهي حصتها من الكسكس والمسلان، كما لو أن التنظيم يلبس مظهر الكونفدرالية الأسرية الراجعة لأصل واحد، لتنصب، بعد أداء صلاة المغرب، وليمة كبرى وسط ساحة القرية، متاحة للجميع، خاصة للقادمين من مناطق بعيدة، وفي حالات نادرة لا تعقد الوليمة في ثاني يوم بل في ثالثه، أما إذا كان العيد قريبا من الجمعة فتقام الوليمة بعد مغربي الخميس أو الجمعة تيمنا بتلك العطلة الدينية".
وبما أن العادة ذات أهداف سامية، أولها تحقيق المشترك المجتمعي الكبير، فإن الدعوة لا تقتصر على المنتسبين للقبيلة الواحدة، بل تشمل مدعوين من أعراش أخرى، فيحظون بمرتبة الضيوف المعفيين من المساهمة رفعا للمشقة.
رباط الوحدة
من الملاحظ أن مائدة المسلان لا تخلو من بعد جمالي يتمثل كما توضح السيدة زرفة صحراوي، و هي ربة بيت و شاعرة، في إضافة الكِلى للمسلان، فتقول: " يتم إخاطة الكلى لربطها بالمسلان، كي لا تتفتت الأولى، وليحافظ الثاني على شحمه، وطبعا يمنح هذا ذوقا جماليا كبيرا مغريا على تفتح الشهية".
بيد أن للوليمة في حد ذاتها ترابطا رمزيا مع القيم السامية للأفراد والمجتمعات، وتعميقا لهذه الفكرة يعلق الأستاذ محمد الصالح أونيسي الباحث في التراث الأمازيغي ومؤلف عدة كتب ودراسات تراثية لـ "ألترا جزائر": " بالنظر لعادة الأمازيغ في تطبيق ازدواجية بين تراثهم الوثني السابق و أعيادهم الدينية الإسلامية، مثلما تم المزج بين كرنفال الشايب عاشوراء مع قداسة يوم عاشوراء، لذا فإن اليوم الأول من عيد الأضحى هو عيد التغافر الإسلامي و إفشاء السلام بين الناس من خلال تبادل التحيات، أما اليوم الثاني فهو من أجل تجسيد التغافر الحقيقي في يوم إيمسلان، فهذه الوليمة الجماعية تلاقي جميع الناس والفئات، بقلوب صافية -بعد أداء الشعيرة الدينية العظيمة-مهما كانت اختلافاتهم الطبقية ونزاعاتهم الاجتماعية، وهي على ما سلف ذكره نوع من أنواع " أكل الملح" الذي يضمن من الناحية الاجتماعية التأسيس لعهد أو عقد جماعي للتآزر والتآلف والمحبة والوفاء والأخوة".