عادت الحياة مجددًا لجامع كتشاوة العريق، وعادت حناجر المؤذنين لتصدح فيه وتنادي الناس للصلاة، بعد أن تم ترميمه وإعادة تهيئته بالكامل في إطار شراكة تركية جزائرية لإعادة إحياء التراث الجزائري الذي يعود للفترة العثمانية. غير بعيد عن "جامع اليهود" كما يسمي أهل العاصمة جامع كتشاوة، يقع حي القصبة، الذي صنفته اليونيسكو إرثًا عالميًا منذ عام 1992، والذي يكتسي أهمية حضارية وثقافية كبيرة لدى سكان الجزائر، فالقصبة شاهد حي على مرور حضارت متتالية يوم كانت الجزائر ممرًا هامًا في حوض المتوسط، فقد تواترت روايات عديدة عن من بنى القصبة، وغالب الظن أن الحماديين هم من أنشؤوا الجزائر العاصمة وبنوا القصبة ليتم تجديدها وتحسينها من طرف العثمانيين إثر ذلك.
من يزور قصبة الجزائر اليوم يجدها مرتدية رداء أسود، خيم الحزن عليها وهجر السياح أزقتها الضيقة ولم يتبق بها إلا بعض الحرفيين
إن كان جامع كتشاوة قد اكتسى لوناً أبيض وتلونت ساحته ببلاط فاخر فإن حال القصبة معاكس لذلك تمامًا، إن من يزور القصبة اليوم يجدها مرتدية رداء أسود وقد خيم الحزن عليها وهجر السياح أزقتها الضيقة ولم يتبق في مبانيها إلا بعض الحرفيين الذين قد تعدهم على أصابع اليد الواحدة، وترى صور الإهمال واللامبالاة تصادفك في كل زاوية منها، حالة يتقاسم مسؤوليتها السلطات المعنية وكذا سكانها.
القصبة اليوم تنهار أمام أنظار الجميع، فيما تكتفي الدولة بإصدار تعليمات تكاد تصبح مجرد حبر على ورق وسط غياب إرادة واضحة في تهيئة القصبة وحماية ما تبقى منها، وإنقاذ المنازل العتيقة التي تحمل في أركانها الكثير من القصص والحكايا، فلقد أكد لنا بعض سكان القصبة أن نصف منازلها قد تهاوت ونصفها المتبقي مهدد بالإنهيار في أي لحظة، يقول أحد قاطني القصبة: "لقد كان عدد المنازل عام 1962 يقدر بـ1200 منزل وقصر، اليوم لم يتبق منها إلا 700، أردنا في العديد من المرات القيام بشيء ما لإنقاذها لكننا لا نجد أذانًا صاغية، يتذكرون القصبة فقط أيام حملاتهم الانتخابية".
اقرأ/ي أيضًا: ميلة الجزائرية..مملكة الجنان والمياه تبحث عن مجدها
يتحمل سكان القصبة والسلطات مسؤولية ما وصلت له قصبة الجزائر التاريخية من حالة متدهورة وطمس لروحها
أمام "بير جباح"، أحد عيون المياه المشهورة في القصبة، التقينا بعمي مرزاق أحد أبناء القصبة المعروفين وأحد أفضل المرشدين السياحيين فيها، إنه يعرف القصبة حجرًا بحجر ويحفظ أركانها زاوية زاوية ويتقن تاريخ المباني عن ظهر قلب، يقول العم مرزاق لـ"الترا صوت": "ولدت هنا وتربيت هنا، وولد جميع أبنائي هنا، لم أغادر القصبة يومًا، لقد عايشت أجمل أيامها حين كانت مقصدًا سياحيًا هامًا وحين كان حرفيوها لا يكفون عن إبداع المنحوتات والهدايا، لقد كان هذا الحي يعيل جميع سكانه من النشاط السياحي، القصبة اليوم ليست تلك التي نراها في الصور وليست تلك التي يذكرها القروابي وعمر الزاهي في أغانيهما، المكان الذي نقف فيه الآن كان منه 150 قبل سنوات، الآن لم يتبق سوى 3 عيون ماء صالحة، لقد انهار كل شيء، لقد صارت القصبة مجرد ذكرى جميلة".
اقرأ/ي أيضًا: "بوسعادة" الجزائرية.. كرم حار جدًا
يرى الصحفي محمد لمين مغنين: أن "المعضلة الكبرى في الجزائر هي كونها بلدًا نفطيًا لا يولي اهتمامًا للسياحة وللمناطق الأثرية والسياحية"، كما يضيف: "قبل أن نبدأ في إعادة ترميم البنايات والجدران علينا البدء في ترميم العقول والأنفس، علينا أن نقنع سكان القصبة بضرورة الانخراط الفعلي في إعادة الحياة لها، علينا أن ندفعهم كي يفتحوا منازلهم للسياح وأن يجعلوا أسطح البنايات قاعات شاي ومطاعم".
ولم يكتف مغنين بذلك بل عرّج على مسؤولية الدولة فيما وصلت إليه القصبة: "هناك تداخل في الصلاحيات بخصوص ملف تسيير القصبة بين وزارتي الثقافة والسياحة وكذلك محافظة الجزائر، لقد ذهب هذا الكنز ضحية أدراج مملوءة بأوراق لا معنى لها"، لينهي كلامه متحسرًا على حال القصبة: "أتصدقون أن هناك من يمتلك منزلاً في القصبة ويتعمد هدمه كي يتحصل على مسكن اجتماعي من غرفتين في إحدى بلديات العاصمة، بعض سكان القصبة لا يدركون أنهم يعيشون وسط متحف مفتوح على الهواء الطلق".
اقرأ/ي أيضًا:
السياحة الصحراوية في الجزائر.. إهمال متواصل