24-أكتوبر-2023
 (الصورة: Getty) محمود الأطرش المغربي

(الصورة: Getty) محمود الأطرش المغربي

تعود هجرة الجزائريين إلى مدينة القدس تاريخيًا إلى العصر الأموي، ومع مرور الزمن ازدهرت هذه الهجرات خلال الوجود العثماني في فلسطين بداية من سنة 1517، وقد تلقى الجزائريون على غرار التونسيون والمغاربة جملة من الامتيازات العقارية والوظيفية من طرف السلطات العثمانية.

ارتفعت وتيرة الهجرات إلى القدس مع بداية الاحتلال الفرنسي للجزائر

ارتفعت وتيرة الهجرات إلى القدس مع بداية الاحتلال الفرنسي للجزائر، وكانت الأسباب الدينية من بين مبررات ودوافع الهجرة، حيث أن غالبية من هاجر، هم من المشايخ والعلماء والتجار، حيث كانت لهم ارتباطات عائلية بأراضي فلسطين منذ عقود طويلة.

وفي عصر النهضة العربية، عُرفت أسماء من أصول جزائرية شاركت في بروز وتطور الحركة الوطنية الفلسطينية، ومن بين تلك الأعلام المنسية محمود الأطرش، وهو شخصية سياسية بارزة في المشهد السياسي الفلسطيني والمشرق العربي خلال عشرينيات من القرن العشرين وثلاثيناته. مُناضل من التيار الشيوعي، وعضوٌ فَعال في الحزب الشيوعي الفلسطيني، ومن مؤسسي فروع الأممية الشيوعية في بلدان المشرق العربي، التي انتشرت بعد انتصار ثورة أكتوبر /تشرين الأول سنة 1917، وكان محمود الأطرش شاهدًا على أهم المحطات التاريخية من حكم الأتراك في المنطقة، إلى الانتداب البريطاني ومحاولات تهويد القدس إلى غاية اغتصاب الأرض الفلسطينية.

من هو محمود الأطرش

في ظروف سياسية واقتصادية وتحوّلات عميقة جرت داخل المجتمعات العربية، وُلد محمود الأطرش في مدينة القدس في حي المغاربة سنة 1903، من أبوين جزائريين هاجرا إلى فلسطين. يَنحدر والده من قرية الديس، من عرش أولاد سيدي إبراهيم الغول- قرب مدينة بوسعادة، والأم السيدة حليمة بنت أحمد خليفة من قرية بني خليفة قرب مدينة تيز وزو، وكانت تمهتن النسج اليدوي، وقد استقرت العائلة بجانب عدد كبير من مهاجري القبائل الجزائريين في شمال فلسطين في منطقة تدعى ديشوم بالقرب من الحدود اللبنانية، ثم انتقل والدا محمود بعدها إلى مدينة القدس.

توفي والده سنة 1904، وتكفلت والدته بتربيته وتعليمه منذ المهد، وكانت تَقُصُ عليه الكثير من القصص عن جرائم الاستعمار الفرنسي، وكيف كانوا يدمرون القرى ويحرقون المزارع والغابات، كما كانت تروي على مسامعه قصص المقاومين والمحاربين الجزائريين. انتقل محمود إلى مدينة يافا بعد أن تزوجت والدته برجل آخر.

تعليمه

حفظ الطفل محمود القرآن الكريم ولم يتجاوز العاشرة، وخلال الحرب العالمية الأولى دخل إلى مدرسة حكومية بالمدرسة الرشدية في يافا، وتعلم الحساب والجغرافيا والتاريخ والإنشاء.

وخلال تلك الفترة التعليمية بدأ الوعي السياسي يتسلل إلى محمود الأطرش، بفعل انتقادات الحكم العثماني من طرف أساتذته، ومخاوف السكان من المستعمرين الفرنسي والبريطاني، وشهدت الفترة نفسها، بداية استيلاء الطائفة اليهودية على الأراضي الخصبة في ضواحي يافا بعدما استولى عليها الإنجليز.

كان محمود الأطرش يَقف في موضع تل الريش الذي كان يُسمى قبل تحريفه بـ “تل الرؤوس"، ويستذكر قصة احتلال نابليون الأول لمدينة يافا سنة 1799، وإعدامه بحد السيف لما يقارب من أربعة آلاف مقاتل من حماة المدينة، كان استسلموا وفق اتفاق بين الطرفين، وكيف كَوْم نابليون الأول رؤوسهم كالتل المرتفع، وشكلت تلك الحادثة صورة عند محمود الأطرش وهو طفل صغير، ورُسمت من خلالها فظاعة القوى الأجنبية والمستعمرات وجرائم القوى الاستعمارية في المنطقة.

في سنة 1914 ومع إعلان الحرب العالمية الأولى سنة 1914، انظمت الدولة العثمانية إلى جانب الألمان والنمسا، وبَلغت الحماسة الشارع العربي والمدن الفلسطينية انتقامًا من الاستعمار الفرنسي والبريطاني والقيصرية الروسية، وساءت خلال تلك الفترة أحوال سكان فلسطين بسبب الحصار البحري والبري الذي فرضه الإنجليز والفرنسيون، وانتشر الفقر والمرض وفتك وباء التيفوس بكثير من السكان.

مدينة  يافا

بعدما أصبحت مدينة يافا ساحة اقتتال بين الشباب العربي والإنجليزي، انتقلت عائلة الأطرش إلى مدينة طبرية في قرية معذر، وكان أغلب سكانها من أصل جزائري من عرب وأمازيغ، وبَعدها انتقل محمود إلى قرية عولم، حيث تتواجد عائلات من سلالة سيدي براهيم الغوث أو الغول، تتزعمها عائلة سيدي المدني.

خلال سنوات 1917 اشتغل محمود موزعًا للأطعمة على الفلاحين والحراّث في المنطقة، وفي سنة 1918 توفيت والدة محمود الأطرش وقد تركت أثرًا بالغًا في حياته، فقرر العودة إلى مدينة يافا والاستقرار في حي المنشية.

الحياة العمالية

اشتغل محمود في أعمال وأنشطة مختلفة، عمل عند النجارين والحدادين، وعمل كبائع متجولٍ، وفي مطابخ معسكرات الجنود البريطانيين ومخازن الحبوب والحوانيت وورشات البناء، وساهمت تلك الأعمال اليومية والشاقة في بلورة الوعي عند الشاب محمود حول المظلومية واستغلال القوي للضعيف وانتهاك حقوق العمال والمستضعفين.

كانت مدينة يافا وبالضبط حي المنشية مَسرحا تَعُج به النقاشات السياسية والوطنية وبث الأفكار النقابية والحديث عن الصهيونية، وكانت الحركات النقابية والعمالية بدأت بالبروز بعد الثورة البلشفية عام 1917، وانتشرت على ضوئها الحركات الاستقلالية، وعمت المطالبة بالحقوق العمالية، وظهرت قوى المناهضة للاستعمار الفرنسي والبريطاني.

من حي المنشية نشأت أول نواة ثورية مناهضة للاستغلال الإنسان، والمطالبة بالحقوق الوطنية، مع رفع الشعارات المعادية للاستعمار البريطاني والحركات الصهيونية.

 الحركة الشيوعية

تبلورت وتطورت أفكار محمود الأطرش بِفعل التجاذبات السياسية والحركات المطلبية إبان فترة 1917 -1920، وكان للمجالات المصرية والسورية أنداك دورً كبيراً في تغذية وعيه السياسي والنضالي والوطني، لقد كان للثورة البلشفية سنة 1917 واقعا بليغ الأثر في تطوره فكريا وثقافيا وسياسيا، فقد دعت الثورة البلشفية إلى تحرير المستعمرات ومحاربة الاستغلال الاقطاعي والرأسمالي واعطاء الشعوب حقها في تقرير المصير، علاوة على التنظيم النقابي وتوزيع الأراضي على الفقراء والفلاحين ومحاربة الامبريالية.

حياة نضالية حافلة

تشكل حياة محمود الأطرش التي جمعت في مذكرات من إعداد وتحرير ماهر الشريف، حلقة أساسية في معرفة أوضاع فلسطين ما قبل وخلال وبعد الحرب العالمية الأولى، وتطورت الأحداث في المشرق العربي، ودور الحزب الشيوعي الفلسطيني في النضال الوطني ضمن مسار الحركة الوطنية الفلسطينية، وعلاقة الحزب الشيوعي الفلسطيني بالأممية الشيوعية والحركة اليسارية، حيث تشكل مصادره مرجعية في كتابة تاريخ الحركة الشيوعية في كل من فلسطين وسوريا ولبنان

وبعدما ضاقت به السبل في المشرق العربي، وتعرضه إلى السجن والتضييق، سافر إلى فرنسا، بدوره تابعته الشرطة الفرنسية، وبعد حملة من المضايقات من طرف البوليس السياسي الفرنسي وخذلان الحزب الشيوعي الفرنسي، واستغل محمود الأطرش أصوله الجزائرية وطالب سنة 1936-1935 الجنسية والهوية الجزائرية لكي يسافر إلى الجزائر، وكانت وجهة الأخيرة الجزائر.

يقول الكاتب الفلسطيني الجزائر سهيل الخالدي، في كتابه "المجاهد الجزائري الفلسطيني محمود الأطرش كرونولوجيا وقضايا"، إن الأطرش عمل في الجزائر في البناء وهي مهنته منذ صغره بفلسطين، ولكنه اعتقل وسجن من طرف السلطات الفرنسية عدّة مرات.

التحاقه بثورة التحرير

يتحدث أيضًا عن التحاق المناضل الجزائري الفلسطيني، بثورة التحرير بصفته شيوعيًا، ولكنه كان انضمامًا فرديًا حيث شارك في نشاطات سياسية كثيرة قامت بها جبهة التحرير في حي القصبة وباب الواحد، وعمل على ترتيب الإضرابات وتوزيع المشورات، وكون شبكة علاقات مع شخصيات تنتمي لجبهة التحرير من أصدقائه الشيوعيين، فألقي عليه القبض وتنقل بين عدّة سجون في العاصمة والمدية.

في السجن سيلتقي محمود الأطرش بأحد رجال بلدة الديس في بوسعادة ويربطه بعائلة أولاد سيدي براهيم في البلدة التي ينحدر منها، ويلتقي بالفعل بعائلته حيث سألوه عن اخته الزهرة التي كانت تدرّس القرآن واللغة في القدس.

في الجزائر المستقلة، عمل الأطرش إلى جانب اشتغاله في البناء، في أسبوعية الثورة والعمل الناطقة باسم الاتحاد العام للعمال الجزائريين فاعتقل سنة 1965 وأفرج عنه بعد سنة.

توفي محمود الأطرش، حسب سهيل الخالدي في برلين عام 1981 إثر مرض عضال

توفي محمود الأطرش، حسب سهيل الخالدي في برلين عام 1981 إثر مرض عضال، ونُقل جثمانه إلى الجزائر ودفن بمقبرة القطار بالجزائر العاصمة، تاركا وراءه مذكرات بعنوان" طريق الكفاح في فلسطين والمشرق العربي، مذكرات القائد الشيوعي".