فرضت مدينة "بوسعادة"، 240 كيلومترًا جنوبًا، نفسها كواحدة من أكثر المدن الجزائرية استقطابًا للسياح وولادةً للمبدعين في الشعر والغناء والإعلام، حتى باتت منافسة في هذا للمحافظات المحيطة بها، بل حتى للـ"مسيلة"، المحافظة التي تتبعها إداريًا.
"بوسعادة" واحة جبلية يعصرها البرد شتاءً والحر صيفًا، لكنها تمكنت من دخول النفوس والنصوص
واحة جبلية يعصرها البرد شتاءً والحر صيفًا، لكنها تمكنت من دخول النفوس والنصوص، إذ نجد ظلالًا لها في أكثر من قصيدة ورواية وقصة ولوحة وأغنية، بل إن بعض الفنانين اختارها مستقرًا له بالنظر إلى جرعة الإلهام القادرة على أن تشحن به زائريها. يأتي في مقدمة هؤلاء الرسام الفرنسي إيتيان دينيه [1861-1929] الذي أعلن فيها إسلامه عام 1913، ويضم متحفه الذي كان بيتَه سابقًا في المدينة 13 لوحة أصلية من لوحاته التي استلهمت روحَ "بوسعادة" والصحراء الجزائرية.
كما أبدعت التشكيلية الأمريكية خوانيتا غوسيون، والتي تزوجت من مواطن "بوسعادي"، في رسم عشرات اللوحات التي رصدت ملامح الإنسان والمكان في هذه المدينة المجاورة لزاوية "الهامل الرحمانية" لمؤسسها محمد بن أبي القاسم الهاملي، وكان لها دور طلائعي في محاربة الاحتلال الفرنسي، وقد اقتنت الشركة البترولية الحكومية "سوناطراك" 174 لوحة من ابنها، وعرضت بعضها للمرة الأولى عام 2008.
يتميز إنسان المنطقة بعفويته وعمقه الإنسانيين في التعامل مع الضيف، فالكرم الذي ورثه عن جده الأول "سيدي ثامر"، مؤسس المدينة، يأتي في طليعة الخصال والقيم التي تغنى بها شعرُه الشعبي الذي يتعاطاه كما يتعاطى الهواء، ويتجلى هذا الكرم في نخبة من الأطباق التي تعد "بوسعادة" رائدة فيها حتى وإن وجدت في مناطقَ أخرى.
يُعدّ "الزفيطي" سيدَ الأطباق البوسعادية التي يتعاطاها الأثرياء والفقراء بالشغف نفسه، وهو بهذا يأتي في صدارة الأطباق التي يُكرمون بها ضيوفهم، رغم أن السائد في أعرافهم أن الاستضافة بلا لحم خادشة للسمعة، إلا أن "الزفيطي" الخالي من اللحم تمامًا يُشكل الاستثناء.
يتميز إنسان "بوسعادة" بعفويته وعمقه الإنسانيين في التعامل مع الضيف
يتكون هذا الطبق من كسرة القمح بلا خميرة، تسمى محليًا "الرخساس"، تخلط بالفلفل الحار والطماطم المشويين والثوم والكسبرة داخل "المهراس" وهو آنية خشبية، ويضاف إلى الخليط السمن البلدي أو زيت الزيتون اختياريًا لترطيب الطعم الحار جدًا.
يُستعمل مرة طبقًا رئيسيًا ومرة سلطةً، وليس هناك وقت محدد لتناوله، إذ يمكن أن يفاجئك مضيفك البوسعادي بمهراس في الوقت الذي تعوّد فيه الجزائريون على أن يكتفوا بأكلات خفيفة، كما يمكنك أن تجد أكثر من مطعم متخصص في المدينة، أشهرها "خيمة بلواضح" الموجودة في ناحية "المعذر"، التي تعد أكثر نواحي المنطقة خصوبة، ومطعم سوق الصناعات التقليدية ومطعم "الأولاج".
مطاعمُ شبيهة كثيرة تخصصت في هذا الطبق خارج "بوسعادة" أو "مدينة السعادة" كما تسمى أيضًا، بالنظر إلى شهرته بين الجزائريين، من هذه المدن الجزائر العاصمة واليشير وسطيف وغرداية وبسكرة والمسيلة أكثر المدن بعد بوسعادة ارتباطًا به، وفيها مطاعم كثيرة خاصة بالزفيطي منها خيمة الحضنة، خيمة قعدة زمان، خيمة دار جدي وخيمة السندباد.
صرح لنا الشاعر المصري علي عطا، الذي اكتشف "الزفيطي" في مطعم "الحاج العيفة للمأكولات التقليدية" بمدينة "اليشير"، في طريقه إلى المشاركة في تظاهرة "قسنطينة عاصمة الثقافة العربية": "لا أجد شبيهًا له في النسيج الغذائي المصري، كان حارًا جدًا، ورغم لذته، إلا أنني لم أستطع أن أصيب منه إلا قليلًا. إنه طبق جدير بأن يصبح رمزًا للجزائر كلها".
لا تخلو صفحات موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك" لعشرات الفنانين والإعلاميين المنحدرين من مدينة "بوسعادة" والمدن القريبة منها، من صور ترصد جلساتهم التي تناولوا فيها "الزفيطي"، مع تعليقات توحي بمدى ارتباطهم به. من هؤلاء المذيع والمصور محمد خريفي، الذي يملك ألبومًا خاصًا بجلسات الزفيطي، والإعلامي فاروق خضرواي الذي نشر هذه الأبيات الشعبية من تراث المنطقة: "يا الجاهل مهراسنا وعليه تسال/ اسمعني نوريك ونعطيك أوصافو/ كي تعرف تبغيه وما تخطيه محال/ واللي يسمع ماشي كي اللي شافو/ وترجع تقطع على جالو أميال/ وتطلب من بعيد وتسعي غرافو/ اللي ذاق يعود يجري ليه قبال/ وما يصبر ديما مجهز مخطافو".