سألتها لماذا تفضلين الاحتفاظ بالأشياء القديمة، فردت: "إنها حياتي، تاريخي، الماضي الذي يحفظ اللحظات الجميلة، فحتى الذاكرة تبدأ في النسيان وتشيخ مع مرور الزمن، إلا أن الأشياء تحتفظ بقيمة اللحظة ولو بعد مرور العشرات من السنين".
حتى الذاكرة تبدأ في النسيان وتشيخ مع مرور الزمن، إلا أن الأشياء تحتفظ بقيمة اللحظة ولو بعد مرور العشرات من السنين
هذه حكمة السيدة حليمة، 69 سنة، من منطقة "الأوراس"، 520 كيلومترًا شرقي العاصمة الجزائرية، في توثيق لحظاتها ليس بكاميرا أو صور وإنما بالحفاظ على أشيائها القديمة التي لا تفرط فيها، تقول لـ"الترا صوت" إن "الكثير من الأشياء تذكرها بلحظات قضتها مع زوجها المرحوم وبعضها يذكرها بمختلف فترات إنجابها لأولادها التسعة وبعضها يذكرها بلحظات محزنة، كيف كانت قوية وكيف كافحت من أجل أن ترى فلذات كبدها وهم اليوم في مراتب عليا".
اقرأ/ي أيضًا: عن الأماكن وبروتكولات الفقد
المثير في الأمر، الآن، أن احتفاظها بـ"القديم"، صار يلاقي الرفض من جزء كبير من المجتمع وتُطرح عليها أسئلة مختلفة وهناك من يستخف بإبقاءها على تلك "الأشياء"، التي يعتبرون أنها لا تضاهي الموضة ولا قيمة مادية لها، بحد تعبير أولادها وزوجاتهم وبناتها أيضًا، لكن المتحدثة ترد بألم كبير، "إنهم عالمي الخاص ويربطني بهم الحنين".
الملابس، الملاحف، الأغطية، الأثاث، الأواني وأشياء قديمة مختلفة تزين زوايا البيوت وتشكل نوعًا من الديكور، تفضل الكثيرات في الجزائر عدم تغييره، وحتى إن قررن التعديل لا يقمن بإلقاء القديم بل بالعكس هناك من تحتفظ به في شرفة المنزل أو في غرفة فارغة أو حتى تقوم بعضهن بوضع هذه الأشياء بعناية في علب كبرى، المهم أن لا تخسر الأشياء ذاكرتها.
كثيرات في الجزائر يتعلقن في لحظات حميمية بالأشياء حتى وإن كانت بلا فائدة، ولكل سيدة فلسفتها في التقديس أيضًا. معظم هذه الأشياء عالقة بالذاكرة بصفة عامة أو بمرحلة من مراحل الحياة بشكل خاص مثل الزواج، تقول السيدة زبيدة، 75 سنة، لـ"الترا صوت": "هذا اللحاف اشترته قبيل زواجها، أي قبل 52 سنة، وحتى ذلك الغطاء القديم وعلبة الكحل وسواري الذهبي المرصع بما يسمى "اللويز"، إنه لا يفارق معصمي، كلها من رائحة المرحوم زوجي ولا يمكن أن أستغني عنها".
اقرأ/ي أيضًا: أنزلقُ نحو يومي الجديد كحشرجة
"الجديد حبو والقديم لا تفرط فيه"، حكمة أخرى للجدات في الجزائر، فمن يفرط في ماضيه لا حاضر له ولا مستقبل له. السيدة أم هاني، التي تعيش في منطقة القصبة العتيقة بأعالي العاصمة الجزائرية، وهي ترفض إلى هذه اللحظة مغادرة بيتها بالحي العتيق رغم أنه على وشك الانهيار، هي إحدى هؤلاء. تتعلق أم هاني بالمكان وبرائحة الحواري الضيقة في "القصبة"، ولا تنسى جيرانها وصديقات الطفولة والعمر، والمكان بالنسبة لها "غالي"، فكل ما يبقيها مرتبطة بالحياة هي الذكريات، وبخاصة صندوق جدتها الخشبي الذي لا تزال تحتفظ به وقد وعدت بتركه لحفيدتها الصغيرة بعد وفاتها.
حزينة هي شرفات العاصمة الجزائرية فمنها ما تحمل هموم الكثيرين وبقايا أشيائهم وبعضها الآخر يحمل أحلامهم وجزءًا مما علق بذاكرتهم. الاحتفاظ بالأشياء القديمة هي خاصية يتميز بها الكثيرون، خاصة من لا يملكون الشجاعة للتخلص منها حتى وإن انتهت صلاحيتها وهناك من يتوارثها أبًا عن جد فتتحول إلى ذكريات تحمل السعيد والمحزن.
اقرأ/ي أيضًا: