في زيارة لشواطئ بولايات تيزو وزّو وبومرداس والجزائر العاصمة وتيبازة، التي تمثّل منطقة وسط الساحل الجزائري، الذي يمتدّ على 1500 كيلومتر، أن يبدأ بمعاينة حظائر السيارات، ليرصد طبيعة المدن المتواجد سكّانها في هذه الشواطئ من خلال ترقيم السيّارات. ذلك أن الترقيم الجزائري يتضمّن رقم المحافظة. فوقف على أنّ معظم المحافظات الـ48 متواجدة، بما فيها المحافظات التي تتوفّر على شواطئ.
مع ارتفاع درجات الحرارة ما بين 36 و48 درجة مئوية مثل البحر المهرب الأمثل للجزائريين
هذا المعطى جعل الثراء الذي يتمتّع به الفضاء الجزائري، من حيث اختلاف القامات وملامح الوجوه، يظهر جليًا. حيث يمكنك أن تجد في البقعة الواحدة شابًّا موغلًا في السّمرة وآخرَ موغلًا في الشّقرة وثالثًا بينهما، بما يعطيك انطباعًا أنهم ينتمون إلى دول مختلفة، لكنهم في الواقع يحملون الجنسية الجزائرية، وينحدرون من مناطق متباعدة. فالمساحة الجزائرية العامّة تقترب من 2.4 مليون كيلومتر مربّع.
تراوح درجة الحرارة في الجزائر ما بين 36 و48 درجة مئوية هذه الأيّام، واندلاع النّيران في غابات 40 محافظة، بما قلّص الفارق في درجات الحرارة بين الشّمال السّاحلي والجنوب الصّحراوي، جعل البحر المهرب الأمثل للعائلات والأفراد. "لقد تحوّلت مدينتنا في الجنوب الغربي إلى ما يشبه "قاعة انتظار جهنّم". وكان لابد أن نتغلّب على كلّ الإكراهات ونقصد البحر"، يقول الجامعي نذير درعي.
وهو الواقع الذي يخلق جملة من الظواهر الاجتماعية والاقتصادية، على مدار موسم الاصطياف. يقول المهندس فارس سليماني لـ"الترا جزائر" إن هذا الموسم يؤكد أن سلطة الاقتصاد الموازي في الجزائر أقوى من سلطة الاقتصاد النظامي، "وإنّ مقارنة بسيطة بين عدد الباعة المستفيدين منه، خارج الضرائب، والباعة الذين يدفعون الضرائب للخزينة العامّة تؤكد هذه الحقيقة".
تأتي في مقدّمة هذه الظواهر ظاهرة بيع الأطعمة الخفيفة والأشربة الباردة والسّاخنة، من طرف باعة متجوّلين. ويُعطيك ترك أقدامهم حافيةً وأجسادهم معرّضةً للشّمس انطباعًا بأنهم لا يهتمّون إلا بتحصيل المال. يحاول أحد المهاجرين العائدين من فرنسا أن يقنعنا بأنها الحقيقة التي لا تقبل الشكّ بالقول: "راقب أصواتهم العالية وغير المنقطعة إلى درجة التشويش على راحة المصطافين، فستجدها دليلًا على اللّهفة إلى المال أكثر منها رغبة في لفت انتباهنا إلى سلعهم". يضيف: "كيف يفكر في صحة المستهلك من أهمل صحته، فلم يلبس قبّعة تقيه الأشعة الضارّة؟".
تتراوح أعمار هؤلاء الباعة ما بين العاشرة والخامسة والعشرين. وقد أدرك "الترا صوت" أنّ معظمهم متمدرسون، إمّا في الجامعة وإمّا في الطورين المتوسط والثانوي. وأنهم يستغلّون موسم الاصطياف لأن يتدبّروا مبالغ تغطّي تكاليف الدخول المدرسي. يقول مؤنس، 17 عامًا، إنّ أباه محدود الدخل ولا يستطيع أن يشتري كبش عيد الأضحى ويتكفّل بلوازم الدراسة لأربعة من أولاده. "أنا أتعرّض للشّمس طيلة النهار، وأمشي مسافة طويلة، ولولا الحاجة ما فعلت هذا. ما جابنيش الخير".
تنتشر على الشواطئ الجزائرية ظاهرة بيع الأطعمة الخفيفة والأشربة الباردة والساخنة من طرف باعة متجولين والتي يشكك كثيرون في نظافتها
سألناه عن الظروف التي تُحضّر بها المأكولات التي يعرضها على المصطافين، فقال إن أمّه هي من تفعل ذلك شخصيًا في البيت. "تصحو باكرًا، فتعدّ الكمية الأولى لأخرج بها إلى الشاطئ، ثم تشرع في تحضير الكمية الثانية، حين أخبرها عبر الهاتف أنني أوشك على بيع الكمّية الأولى. ويحدث أن نستمرّ في هذا إلى غاية منتصف الليل إذا كان البيع موفّقًا". ويعتقد مؤنس أن طعامه أكثر نظافة ولذّة ممّا يقدّم في المطاعم، "فأمّي امرأة تخاف الله ولا تغشّ أبدًا".
تتضمّن قائمة المأكولات التي يعرضها هؤلاء الباعة المتجوّلون فطائر محلّاة وأخرى تشبه البيتزا تسمّى "المحاجب" وساندويتشات مختلفة المضامين، لكنها من النوع الذي يتلف سريعًا تحت تأثير الحرارة المرتفعة، فيكون استهلاكها مقدّمة للتسمّم الغذائي. يقول الطبيب ياسين عبد الجبار لـ"الترا صوت" إنه لو كان الوعي الصّحي متوفّرًا بما يكفي لدى من يستهلك هذه المأكولات لفضّل الجوع عليها، "ماذا ينتظر من شيء مقلي في الزيت ويبقى تحت الشمس أكثر من ثلاث ساعات ولا يعمل بائعه على تغطيته حتى، سوى أن يسمّمه؟". يضيف: "نستقبل حالاتٍ يقتضي علاجها غسل المعدة فورًا".
سألنا أكثر من مستهلك عن خلفية إقباله على ما يقدّمه هؤلاء الباعة، فوجدنا ندرة المطاعم في الشواطئ الجزائرية، والتهاب أسعار ما يوجد منها، في مقدّمة الأسباب. يقول الشاب عبد اللطيف: "من الخطأ أن نربط قدوم أحدنا إلى البحر بوفرة المال. أنا مثلًا لا يكفيني ما في جيبي لأن أقصد مطعمًا معتمدًا، وهو ما يدفعني إلى أن أتعامل مع الباعة المتجوّلين، لأن أسعارهم زهيدة". فيما يشير جليسه إلى معطى قال إنه مهم، وهو أنّ غياب الرقابة والغشّ في محاربة الغشّ من طرف المصالح المعنية جعل المطاعم نفسها تقلّل من حرصها على النظافة. "لقد بات الجزائري يعتمد على عبارة "باسم الله" لحمايته من سموم الباعة الثابتين والمتجوّلين معًا".
في ظلّ هذا الواقع، أطلقت "المنظمة الجزائرية لحماية وإرشاد المستهلك عبر الشواطئ"، حملة تحسيسية، لتحذير المصطافين من مخاطر المأكولات المقدّمة بعيدًا عن الشّروط الصّحية اللّازمة. يقول رئيس مكتب المنظمة في محافظة وهران عبد الحفيظ بورزق إن "الجزائري بات، في ظلّ الأزمة المالية، يراعي الأسعار لا طبيعة هذه المأكولات. وهو الخطأ الفادح الذي يهدّد صحته، مما يضطره لاحقًا إلى أن ينفق على العلاج ضعف ما ربحه من مال، بلجوئه إلى الباعة المتجوّلين". يسأل: "هل من العقل أن أسمّم نفسي بنقودي؟".