يُعدّ الجزائريون من أكثر الشّعوب شغفًا بالإنجاب، سواء قبل أو بعد الاستقلال الوطني، 1962، إذ يُمثل الأطفال الأقلّ من 15 عامًا، بحسب "الديوان الوطني للإحصاء"، 40 في المئة من إجمالي عدد السكان البالغ عددهم 40 مليونًا. ولا يتفاوت هذا الشغف لدى الشرائح المختلفة، إذ من النادر أن يتبنّى الجزائري سياسة تحديد النّسل.
ترتفع عمالة الأطفال القصر في الجزائر خلال شهر رمضان لتزامنه مع الإجازة الصيفية وتراجع القدرة الشرائية للمواطنين
ولك أن تسأل أيّ جزائري عن خلفيات شغفه بالإنجاب واحتفائه بالأطفال، فستسمع منه هذه العبارة "نجيب وليدات يخدموا علي"، أي أنجب أولادًا يعملون من أجلي. لذلك فإن تحبيب العمل للطفل من الهواجس التي تشغل الأسرة الجزائرية منذ نعومة أظافره، وقد يكون ذلك على حساب طفولته وحقّه في الدّراسة، إذ أثبت تقرير لوزارة التربية تناول أسباب التسرّب المدرسي في الجزائر، أنّ الرّغبة في الالتحاق المبكر بسوق العمل يأتي من بين أبرز تلك الأسباب.
تقلّ عمالة الأطفال القصّر في الجزائر، بالمقارنة مع دول عربية وأفريقية أخرى، لكنّها تصبح ظاهرة رائجة خلال شهر رمضان، خاصّة في ظل معطيين عرفتهما السّنتان الأخيرتان هما تزامن شهر الصّيام مع العطلة الصّيفية، وتراجع القدرة الشّرائية للأسرة الجزائرية، بسبب هبوط أسعار النّفط، ممّا دفع الحكومة إلى إقرار سياسة تقشّف قاسية، وقانون مالية رفع من الأسعار مع الإبقاء على الرّواتب نفسها.
يقول مستشار في وزارة الأسرة وقضايا المرأة لـ"الترا صوت"، تحفّظ على ذكر اسمه، إنّ نسبة الأطفال العاملين بشكل دائم في الجزائر لا تتجاوز 0.5 في المئة، "ذلك أنّ الجزائر كانت سبّاقة إلى المصادقة على الاتفاق الدّولي المانع لتشغيل الأطفال عام 1990، وأنشأت عام 2003 لجنة وطنية بين القطاعات تسهر على مكافحة عمل الأطفال". يضيف: "تشنّ مختلف الهيئات والمؤسسات المعنية حملة سنوية للحدّ من الظاهرة، بمناسبة اليوم العالمي لمكافحة عمل الأطفال الذي أقرّته "منظمة العمل الدّولية" في 12 حزيران/يونيو عام 2002".
وينفي المسؤول الجزائري أن تكون عمالة الأطفال، خلال شهر رمضان، بدافع انتشار الفقر في البلاد، "بل هي ظاهرة اجتماعية مرتبطة بخصوصية هذا الشّهر في الوسط الجزائري". يشرح فكرته: "هناك بنيات اجتماعية متجذّرة تفرض أنماطًا من عمل الأطفال لا يمكن أن نُخضعها للقوانين، من ذلك أنّ الأب الجزائري يرى توريط صغاره في بعض الأعمال الخفيفة مبكّرًا، من باب تكوينهم الذّاتي على حبّ العمل والإقدام عليه".
تحبيب العمل للطفل هو من الهواجس التي تشغل الأسرة الجزائرية وقد يكون ذلك على حساب طفولته ودراسته
غير أنّ الحديث إلى نماذج من الأطفال الذين يحتلّون الأرصفة في شهر رمضان، عارضين سلعًا مرتبطة بالصّيام، ينفي هذا الطرح، ويلفت الانتباه إلى أنّ الظاهرة لا تخضع لمعطى اجتماعي، بل هي خاضعة لإملاءات الوضع الاقتصادي الصّعب الذي بات يخيّم على نسبة كبيرة من الأسر الجزائرية. يقول طالب علوم الإعلام والاتصال عبد الله بن مهل لـ"الترا صوت" إنّ معظم السّلع التي يبيعها هؤلاء الأطفال من الأطعمة والأشربة التي تعدّ في البيوت، "أي أنّ الأسرة اشترت المادّة الأوّلية وهيّئتها، وهو دليل على حاجتها إلى المال أصلًا، أو إلى مال إضافي على الأقل". يضيف: "كنّا سنقول إن الأمر مرتبط بمزاج طفل لو كان يبيع سلعًا جاهزة مثل الألعاب".
في مدن برج بوعريريج، شرقًا، والثنية، وسط، وبوسماعيل، غربًا، التقى "الترا صوت" عشرات الأطفال الذين قالوا إنّهم يخرجون إلى أرصفة الشّوارع، قبل موعد الإفطار بحوالي خمس ساعات، ليبيعوا سلعهم للصّائمين. تقول نعيمة، 11 عامًا: "أفعل هذا منذ اليوم الأوّل من رمضان، ولأنّني صائمة فأنا أشعر بعطش شديد بفعل الحرارة، وبصداع في الرّأس بفعل الضجيج والنداء على سلعتي".
كانت تبيع الخبز المعدّ يدويًا في البيت، وتنفي قدرة أسرتها المتكوّنة من سبعة أفراد على توفير وجبتي الإفطار والسّحور، إذا لم تتمكّن من بيع الكمّية كلّها، "وهذا ما يفسّر لجوئي إلى أن أنادي على سلعتي حتى ينتبه الناس إليها، خاصّة في الفترة التي يقترب فيها موعد الأذان، إذ أصاب بخيبة كبيرة حين يكون الإقبال محتشمًا". سألناها عن البرامج التلفزية التي تستهويها في رمضان، فأطلقت ضحكة حزينة، "أخرج إلى الرّصيف في حدود الثالثة بعد الزّوال، وأنام مباشرة بعد الإفطار لإحساسي بالإرهاق، وهذا يُفوّت علي كلّ فرصة مشاهدة التلفزيون".
فيما يبقى بعض الأطفال هادئين وصامتين أمام سلعهم، مثل خبز البيت والشّربات والكسبرة والثوم والبقدونس وبعض الحلويات التقليدية، يرفع آخرون أصواتهم صابغين على سلعهم الصّفات الحميدة. من ذلك قول الطفل رضوان في مدينة الثنية "معدنوس.. معدنوس، لشريبة تحيي النفوس"، وقول الطفل محمّد بائع الشربات في مدينة بوسماعيل "برّد يا عطشان، برّد يا عطشان". سألناه عن سبب صراخه رغم أنّ السلعة بادية للعيان، فقال إنّه يستعين بذلك على الوقت، "أبقى هنا ثلاث ساعات تحت الشّمس، وبقائي صامتًا يجعلني أضجر أو أنام أو أعود إلى البيت". يطرح سؤالًا ذا دلالة: "هل تدري ماذا يحصل إذا عدت إلى البيت من غير أن أبيع سلعتي؟ سيجوع إخوتي ويُحرمون من كسوة العيد".