17-نوفمبر-2016

أحد أسواق البطالين في الجزائر، إنها عبقرية الحاجة (الترا صوت)

لطالما تساءلتُ: لماذا نسمع ونقرأ عن الشابّ الذي حملته بطالته على أن يؤذي المجتمع بالسّرقة أو الاغتصاب أو الاختطاف أو الحشيش أو التهريب، ولا نسمع ونقرأ، إلا نادرًا، عن الشابّ الذي حملته البطالة على أن يتصرّف بما ينفعه ولا يضرّ الآخرين؟.

خلق عديد العاطلين عن العمل في الجزائر أسواقًا يبيعون فيها موادًا بسيطة للتصدي للحاجة وضيق ذات اليد

وينتعش هذا السؤال داخلي كلما دخلت سوقًا من الأسواق التي خلقها "البطالون"، في زاوية من زوايا المدن الجزائرية، في الجهات الأربع، رغم ملاحقات رجال الشرطة لهم، وإقدامهم على فكّ تجمّعاتهم، بحجة أنها تجارة غير شرعية، تنهك الاقتصاد الوطني.

في قسنطينة ووهران ومعسكر وبسكرة وعنابة، عيّنات وقفنا عليها فعلًا، يرتبط شروق الشمس بانتعاش أسواق في مكان محدّد، باعتها وزبائنها من المراهقين والشباب، بعضهم متسرّب مدرسيًا، وبعضهم لا يزال على قيد الدراسة، لكنه يزاوج بين الدراسة و"التجارة"، وقد وضعت كلمة التجارة بين مزدوجتين، لأن ما يُباع ويُشترى في هذه الأسواق من الأغراض بسيط جدًّا، بالمقارنة مع ما يباع في الأسواق المعتمدة من طرف السلطات.

هاتف نقال أو شاحن كهربائي أو بطارية هاتف نقال أو حذاء أو سروال أو بذلة رياضية أو عصفور في قفص أو قفص أو مذياع أو وحدة تخزين أو قارورة عطر أو ساعة أو قطعة ذهبية أو حقيبة ظهر، وأنا أذكر هذه الأغراض بالموازاة مع رؤيتي لها في سوق الجسر بمدينة مستغانم، 400 كيلومتر غربًا.

في هذا السوق، يلتقي الجامعي والأميّ بائعًا وزبونًا، هناك من يقصده للمرة الأولى، وعليه توخي الحذر من خبرة من يقصده يوميًا، فقد يشتري منه أو يبيع له غرضًا بغير ثمنه الحقيقي رفعًا وتخفيضًا، وإن قليلًا من المعاينة يجعلك تعرف ذا الخبرة من عديمها، ذلك أن الخبير يتشبّث بسلعته إلى آخر اليأس من بيعها، ويُكثر من إطلاق الأوصاف الحميدة عليها، مركزًا على حاجة الزبون الماثل أمامه إليها، أما إذا كان شاريًا فإنه يبدي زهده فيها، ويُكثر من إطلاق الأوصاف المعيبة عليها، ويذكر شبيهاتها في الأسواق الأخرى، حتى يحصل عليها في النهاية بالسعر الذي يناسبه، بما يشبه حربًا نفسية متكاملة الأركان.

يقول وسيم المعروف بالذّيب إنه بات يفرّق بين الزبون المحتاج إلى المال بإلحاح، وذاك الذي يقصد السوق ليبيع غرضًا يريد استبداله بغيره، كما يملك قدرة على استدراج الناس إلى أن يبيعوه سلعًا لم يكونوا ينوون بيعها، أو يدلّوه على سلعة عند غيرهم. "هذا السوق أصلًا هو ثمرة للفقر العام وحاجة الناس إلى المال، في ظلّ تراجع القدرة الشرائية واستفحال البطالة، وما علي إلا استغلال خبرتي في اقتناص الفرص".

في "أسواق البطالين" في الجزائر، يلتقي الجامعي والأمي، وهناك من يقصده للمرة الأولى وعليه توخي الحذر من خبرة من يقصده يوميًا

رافقنا عزّو إلى إحدى المقاهي المجاورة للسوق، وأخبرنا بأن كثيرًا من السكان ينظرون نظرة سلبية إلى السوق، "إنهم يعتقدون أن معظم السلع التي تدخل هذه السوق مسروقة، لكنهم في النهاية يقصدونها لأن أسعارها رحيمة". ويضيف: "لا أنكر أن بعض الأغراض مسروقة من مدن أخرى، إذ يصعب بيع سلعة سرقت في المدينة نفسها، لكن معظم الأغراض هي ملك لبائعيها المحتاجين إلى أثمانها".

ويكشف عزّو طبيعة بعض من اشترى منهم في الشهرين الأخرين: "طالب جامعي باع ساعته الثمينة ليغطّي تكاليف الدخول الجامعي/ شابّ باع هاتفه النقال ليشتري هدية لشقيقته العروس/ آخر باع بذلته وحذاءه الرياضيين ليتكفّل بعلاج أمّه/ طفل باع لعبة حصل عليها في عيد ميلاده، ليشتري حذاء". ويشرح: "طبعًا.. عرفت أسباب إقدامهم على بيع أغراضهم الحميمة، في سياق محاولاتهم استعطافي حتى أعطيهم مبلغًا أعلى".

في ركن قصيٍّ تحت الجسر، كان وهّاب يجلس في هيئة نسر يؤمن بالغنيمة، قلنا له إن صديقك فلانًا أرسلنا إليك، فترك كلَّ مظاهر التحفظ وكشف لنا عن طرق ذكية وأخرى طريفة في الحصول على المال داخل السوق. "كلما استقبلت المدينة فريقًا لكرة القدم من مدينة أخرى، كلما استقبلت معه أنصاره، وكثير منهم يلجأ إلى هذه السوق لبيع بعض أغراضه، عادة ما تكون هواتفَ نقالة أو ساعاتٍ أو قبعاتٍ رياضية ثمينة، ليضمن المبلغ الذي يعيده إلى مدينته، وأنا خبير في اقتناص هؤلاء".

خبرة الفتى القنّاص تشمل أيضًا شريحة أخرى هي شريحة الطلبة الجامعيين. "أعلم أن الطالب الجامعي يضطرّ أحيانًا إلى البقاء في الحي الجامعي، وهو ما يجعل حاجته إلى المال ملحة، وأنا لا أكتفي باستقبالهم هنا، بل أذهب إلى حيث يقيمون، حتى أقطع الطريق على غيري، وقد بات بعض الطلبة يعملون وسطاءَ لصالحي، مقابل نسبة من الأرباح".

ما أثار دهشتنا، براعة بعض الأطفال في هذه التقنيات، حتى أن خالد، 13 عامًا، بات من "شياطين" هذه السوق، ولم يفشل في شراء سلعة في يد غيره أو بيع سلعة في يده، بالسعر الذي يريد. "التحقت بالسوق قبل سنتين، وكان خالي معلمي فيها، قبل أن أفقده في حادث درّاجة، لقد علمني كيف أكون كبيرًا مع الكبار، وساعدتني محبة الناس له هنا، ووفاؤهم لجميله عليهم، على أن أكون مدلّل السوق".

يعترف الفتى بأن سنّه تسمح له بالدخول إلى بيوت الآخرين، والحصول على أغراض من النساء اللواتي يجدن حرجًا في الخروج إلى السوق، أو يرغبن في بيع بعض أغراضهن من غير علم رجال البيت. "كثيرًا ما حصلت على قطع ذهبية ثمينة من هذا الباب، وهو باب رزق أحرص على ألّا أسدّه بالثرثرة وكشف الأسرار".