كان من المفروض أن تعلن نتائج شهادة البكالوريا/الثانوية العامة في الجزائر قبل شهر، لكن تسريب أسئلة بعض المواد المقّررة، في دورة حزيران/يونيو الماضي التي ترشح لها ما يزيد عن 800 ألف تلميذ، أدى بالحكومة إلى فرض إعادة جزئية لأكثر الامتحانات شعبية في البلاد، أجّلت ظهور النتائج إلى غاية العاشرة من ليلة البارحة بالتوقيت الجزائري.
حالة الترقّب بكلِّ ما يتبعها من مخاضاتٍ نفسية بدأت مع ظهيرة أمس، إذ لم يكن المترشحون متأكدين من الساعة التي يُطلق فيها "الديوان الوطني للمسابقات والامتحانات" النتائجَ على موقعه في الإنترنت، ساعاتٍ قبل تعليق القوائم الورقية في المؤسسات التربوية.
من أعطى كل هذا الألق لامتحان البكالوريا الذي بات الجميع يشكّون في مصداقيته؟
اقرأ/ي أيضًا: إعادة جزئية لامتحانات البكالوريا في الجزائر
ليته يُغمى علي
التقينا نخبة من المترشحين في القطار الرابط بين الجزائر العاصمة ومدينة الثنية، 50 كيلومترًا شرقًا، فلمسنا فتور الأحاديث بينهم، كأنهم ذاهبون إلى جنازة. اعترف أحدهم: "صحوت اليوم باكرًا وخرجت إلى العاصمة من غير أن أتناول شيئًا على غير العادة، ثم نسيت أيضًا أن أتغدى، وها أنا عائد إلى البيت جائعًا. شعور خاص ينتابني ويجعلني أزهد في كل شيء ما عدا التنفس". يضيف: "أتمنى أن يُتاح لي أن أنام أو يُغمى علي إلى غاية ظهور النتائج".
راقبت أثر كلامه في أعين البقية، فاستنتجت أنه عبّر عن مشاعرهم. قال آخر: "شخصيًا أملك الاستعداد للرسوب، فذلك ليس نهاية العالم في نظري، لكن من يقنع أمي بذلك؟ قالت إنها مستعدة لأن تسمع خبر دخولي السجن، لكنها ليست مستعدة أن تسمع خبر رسوبي في البكالوريا. من أعطى كل هذا الألق لهذا الامتحان الذي بات الجميع يشكّون في مصداقيته؟".
محدّثونا قالوا إنهم شحنوا بطارياتِ هواتفهم وأرصدتَهم، حتى لا تخذلهم ساعة الإعلان عن النتائج في الإنترنت، وسوف يجلسون جماعة على الشاطئ في مدينة بومرداس ترقبًا لها. هنا نستبق الأحداث بالقول إننا اتصلنا بأحدهم بعد ظهور النتائج، وقد احتفظنا برقم هاتفه، فبادرنا بـ"زغرودة" على سبيل الدعابة، ودلالة على نجاحه. سألناه عن الفتى الذي كان يعيش ضغطًا بسبب أمه، فقال إنه نجح أيضًا.
احتكاك أثمره الخوف
صدق من قال إن المصائب والأفراح توحّد المصابين بها، وهذا ما لمسناه في أكثر من حي بمدينة بودواو، 38 كيلومترًا شرقًا، إذ كان التلاميذ المعنيون بنتائج البكالوريا، يجلسون جماعات.. جماعات أمام مداخل العمارات وخلفها، تجمعهم أحاديثُ باردة، سرعان ما يقطعونها بالغرق في تصفح "فيسبوك".
يقول أسامة المترشح ضمن شعبة الفلسفة: "لست مستعدًا في هذه اللحظات لأن أجالس غير زملائي، فهم وحدهم يمنحونني شعورًا بالأمان، يُهيّئونني نفسيًا للفرح والخيبة وأهيّئهم، وحتى الذين قبلت أن أدردش معهم في فيسبوك هم مترشحون أيضًا ويعيشون الحالة نفسها". طلبنا منه أن يصف تلك الحالة فقال: "أنا في سن تشكّل عتبة تحوّل مهمة في حياتي، فالانتقال إلى الجامعة سيفتح لي آفاقًا جديدة، لا أعني الأفق المهني فأنا أعلم أن حصولي على شهادة جامعية لا يضمن لي العمل بالضرورة، لكنني أقصد أفق التحرّر، فالحياة الجامعية، خاصة في مدينة بعيدة، يجعلني أغيّر نكهة يومياتي الرتيبة".
من جهته قال عادل المترشح ضمن الشعبة الأدبية: "معظم المترشحين للبكالوريا لم يتمكنوا من قبل، بحكم السن والتبعية المالية، من إهداء فرحة لآبائهم وأمهاتهم، والبكالوريا فرصة بالنسبة لهم كي يفعلوا هذا، والخوف من عدم القدرة على ذلك، يُبرمج المترشح خلال الساعات التي تسبق الإعلان عن النتائج، على التشنج وفقدان الشهية للأكل والحديث".
في موقع فيسبوك، كانت إطلالة بسيطة كافية لمعرفة المترشح من غيره، من خلال مبادرة معظم المترشحين إلى وضع منشورات تتعلق بالحدث، معظمها كان أدعية بالنجاح والتوفيق، أو طلبَها من الغير، فيما اكتفى البعضُ بوصف حالة الترقب، أو الحديث عن الهدية التي تنتظره عند افتكاكه للشهادة.
اقرأ/ي أيضًا: خوفًا من تسريب الامتحانات.. الجزائر تحاصر الإنترنت
انتظار بطعم الدفلى
السائد أن يُقدم المترشح الناجح في البكالوريا ما يُسمى "الفال" للأهل والجيران والأصدقاء، وهو يتمثل في حلويات ومشروبات غازية خاصة
حلّت الساعة الثامنة ليلًا، وهي الساعة التي كانت الأغلبية تظن أن النتائج ستظهر فيها، فازدحمت شبكتا الهاتف النقال وفيسبوك بالمتصلين، صارت الأولى شبه مقطوعة، فيما أصبحت الثانية بطيئة بشكل مزعج. لم تظهر النتائج، كما كان متوقعًا، فتغير طعم الانتظار هذه المرة، وصار غيرَ محتمل لدى الكثيرين. علّق أحدهم: "ألم يكفهم أنهم عذّبونا بدورة الإعادة في عز الصيف والصوم، فراحوا يعذبوننا بانتظار النتائج؟".
عند العاشرة ليلًا بتوقيت الجزائر، التاسعة بتوقيت غرينتش، صار متاحًا لأصحاب الإنترنت ذات التدفق السريع، أن يواجهوا "مصيرهم"، أما أصحاب الإنترنت البطيئة، فقد كانت أعصابهم وأعصاب ذويهم مشدودة، بعضهم أدخل رقم تسجيله عشرات المرات من غير أن يتمكن من الدخول، فكان لزامًا عليه أن يُهاتفَ أحدَهم كي يدخل بدله، ليصطدم بصعوبة الاتصال.
حاجة قومٍ عند قوم عطلة ونبيذ
من الطرائف التي وقفنا عليها، أن شابًا عاطلًا عن العمل كان يُمَكّنُ الواحدَ من معرفة النتيجة من خلال استعمال هاتفه الذكي، مقابل 200 دينار، قرابة الدولارين، وما إن سمع الآخرون بسرعة تدفق الإنترنت لديه، حتى تدفقوا عليه، بما جعله يجمع بعد ساعتين، ما قال إنه يمكّنه من قضاء نهاية الأسبوع في مدينة بجاية.
مشهد طريف آخر أضحك من شاهده: مترشح سلفي يرتدي "اللباس الشرعي، اضطرّ إلى أن يستنجد بهاتف شابٍّ كان يشرب النبيذ، كي يعرف نتيجته، فما كان من فتى النبيذ إلا أن قال له: "سأمكّنك من ذلك، شريطة أن تعطيني مبلغًا لأشتري النبيذ، إذا كنتَ من الناجحين. انصرف المترشح السلفي مستغفرًا، ثم ما لبث أن عاد قائلًا: أعطيك ألف دينار، لكن بوصفها مقابل خدمة الهاتف".
اشتعلت الجزائر العاصمة وضواحيها بالزغاريد والألعاب النارية، إلى غاية منتصف الليل، وهو الجو الذي لا يحدث إلا في المولد النبوي، أو عند فوز استثنائي للفريق الوطني أو أحد الفرق العاصمية، وقد تمكنت المحال التجارية التي لم تغلق باكرًا، من بيع ما لديها من حلويات ومشروبات غازية، ذلك أن السائد أن يُقدّمَ المترشحُ الناجحُ ما يُسمّى شعبيًا بـ"الفال" للأهل والجيران والأصدقاء.
اقرأ/ي أيضًا: