ينقلب نظام النوم لدى الشاب الجزائري في رمضان رأسًا على عقب، سهرٌ في الليل وسبات في النهار، حتى أن كثيرًا من الظرفاء ينشرون على صفحاتهم في موقع فيسبوك عبارة "صباح الخير"، قبل أذان المغرب بدقائق، فيما كتب الفنان إبراهيم حدرباش ساخرًا: "انتابتني رغبة في السهر، فوجدتها السابعة صباحًا".
في السابق، كانت شواطئ الجزائر تعمر بعد ساعة من الإفطار على الأقل، أما اليوم فساعة قبله، بقدوم العائلات وشلّات الأصدقاء للإفطار على الشواطئ
هذه العادة فرضت عاداتٍ أخرى، خاصة مع تزامن رمضان مع فصل الصيف في السنوات الأخيرة، منها اللجوء إلى شواطئ البحر لتناول وجبة الإفطار هناك، علمًا أن الشريط الساحلي الجزائري يزيد عن 1200 كيلومتر، وتطل عليه مدن كثيرة يقطنها نصف عدد السكان البالغين أربعين مليونًا، منها عنابة وجيجل وسكيكدة وبجاية والجزائر العاصمة وتيبازة ووهران.
اقرأ/ي أيضًا: رمضان الجزائريين.. أرصفة محتلة
في السابق، كانت شواطئ هذه المدن تعمر بعد ساعة من الإفطار على الأقل، أما اليوم فساعة قبله، بقدوم العائلات وشلّات الأصدقاء، ناصبين طاولاتٍ أو أفرشة، بعضهم يجلبها من البيت، فيما يؤجرها البعض الآخر على عين المكان، ويضعون عليها مختلف الأطباق والمشروبات في جو عائلي مثير للإعجاب.
وقفنا على هذا المشهد في الواجهة البحرية لمدينة بومرداس، 50 كيلومترًا شرق الجزائر العاصمة، ولاحظنا الانسجام الإنساني السائد، ليس بين أفراد الطاولة الواحدة فقط، بل بين جميع الطاولات، ولفتَ انتباهَنا تبادلُ الأطباق، وانتقال أحدهم من طاولته، لتناول شيء في طاولة أخرى، رغم أن التعارف تم في مساء ذلك اليوم.
يقول أسامة علواش، أستاذ الفيزياء في الجامعة الجزائرية، إنه كان يعترض على فكرة الإفطار على شاطئ البحر في البداية، لكنه حين جرّبها بتحريض من أخيه الأصغر، بات لا يستغني عنها. "هنا يصبح نسيم البحر بديلًا عن المكيف الكهربائي، والهواء الطلق بديلًا عن الجدران، كما أن فرصة التعرف على أشخاص جدد تصبح أعمق، بحكم الحميمية التي تفرضها خصوصية رمضان".
علواش قرأ هذه الظاهرة من زاوية كونها ثمرة لمرحلة ما بعد الخوف والعنف والإرهاب: "بقي الجزائري سنواتٍ بعد مرحلة الإرهاب يتصرف بخوف من الآخر، لكنه تحرّر من هذه العقدة في السنوات الأخيرة، وبات استعداده للتفتح على الوجوه والأمكنة كبيرًا". يختم: "ما أحوج الجزائريين إلى فضاءات يتنفسون فيها خارج الجدران".
الملاحظ في هذه الظاهرة أنها منتشرة في أوساط الشباب أكثر، من خلال اتفاق الأصدقاء فيما بينهم على أن يجلب كل واحد منهم طبقًا معيّنًا، والذهاب إلى البحر قبل المغرب على متن سيارة أحدهم، مصطحبين لوازم السباحة والرياضة أو الموسيقى، لإقامة سهرة مفتوحة تمتد إلى السحور.
تحولت شواطئ الجزائر خلال رمضان هذا العام إلى مطاعم مفتوحة قبيل أذان المغرب ثم إلى أعراس صغيرة بعده
اقرأ/ي أيضًا: إطفائيو الجزائر.. إفطار بطعم الحريق
يقول الموسيقي زكي شرقي لـ"الترا صوت" إنه ينتقل من مدينة معسكر، 400 كيلومتر غربًا، إلى مدينة وهران البعيدة بثمانين كيلومترًا، رفقة ابن عمه الممثل نصر الدين شرقي ونخبة من الأصدقاء، للإفطار على الشاطئ: "نحدّد سلفًا لكل واحد منا ما يحضره من بيته حتى تكون الوجبة متكاملة، ونشتري ما ينقصنا من الخارج، وننطلق ساعتين قبل المغرب". يضيف: "لا أنكر أن للإفطار مع العائلة نكهةً خاصة، لكن الواحد يشتاق إلى أجواء الأصدقاء ونكتهم وفوضاهم والاستمتاع معهم خارج التحفظ".
شواطئ "برج البحري" و"سركوف" والصابلات" و"الكيتاني" و"عين البنيان" و"زرالدة" في الجزائر العاصمة، تتحول إلى مطاعم مفتوحة قبيل آذان المغرب، ثم إلى أعراس صغيرة بعده، إلى غاية موعد السحور في حدود الثالثة والنصف صباحًا، لتكون بديلًا للحرارة في البيوت والزحمة في الشوارع.
يقول أمين قاسمي، صاحب مدرسة خاصة في تعليم اللغات، إن لصلاة المغرب على الشاطئ عمقًا مختلفًا، وللأكل مع شلة الأصدقاء مذاقًا خاصًا: "يحدث أن يُحضر أحدُنا صديقًا له لا نعرفه، فيصبح صديقًا مشتركًا، ويحدث أن نجد في الشاطئ متشردًا أو عابر سبيل، فنمكّنه من أن يأكل ويشرب، إنها تجربة تجمع بين التعارف والخير والمتعة، أليست هذه هي الفلسفة الحقيقية لشهر رمضان؟".
اقرأ/ي أيضًا: