بعد شهرين من التحاقها بوظيفة في مؤسسة خاصّة، استسلمت الشابة نهاد (اسم مستعار) للأمر الواقع، وقرّرت ترك وظيفتها الجديدة والتزام البيت، لأنّها باتت وكأنها مطاردة ومستهدفة طيلة فترة التحاقها بالشغل، إذ تروي الشابة في حديث إلى "الترا جزائر" معاناتها مع التحرش والعنف اللفظي الذي أمسى يرافقها في الشارع والعمل، موضّحة أن "التحرش اللفظي كان وما زال يُلازمها منذ كانت طالبة في الثانوية، وأنها استطاعت التعامل مع هذه الظاهرة عبر التجاهل، والتركيز على الدراسة والتعليم".
تقول الشابة نهاد إن صاحب العمل بدا في البداية لطيفًا ودودًا وقابلت معاملته بالاحترام لكبر سنه لكن مع مرور الأيام اتضح أنه بات شخصًا متحرشًا
توضّح نهاد أن النساء في السنوات الأخيرة أصبحن يتلقين الكلام القبيح مجانًا، ويتعرضن إلى السب والشتم في كلّ الأمكنة تقريبًا، وإلى كل أنواع الإيحاءات الجنسية دونما سبب وبلا أي مبرّر، وفي مختلف الأماكن العامة والخاصة.
اقرأ/ي أيضًا: العنف ضدّ المرأة.. جرائم لا تتجاوز غرف النوم
تجربة نهاد في العمل كانت كابوسًا حسب وصفها، حيث قالت إن صاحب العمل بدا في البداية لطيفًا ودودًا، وقابلت معاملته بالاحترام لكبر سنه، لكن مع مرور الأيام اتضح أن صاحب المؤسسة بات شخصًا متحرشًا، ويبالغ في الحديث عن خصوصياتها في اللباس والشكل.
تَعترف نهاد أن مديرها لم يتعد حدود التفوه ببعض الألفاظ الجنسية، لكن سلوكه هذا سبب لها معاناة نفسية وسيكولوجية وكوابيس يومية أجبرتها على ترك العملـ واستطردت أن التحرش في الشارع أقلّ حدة في وجود فضاءات عامرة بالناس والمارّين، رغم تعرّضها للاعتداءات اللفظية في المواصلات العامة والشارع، لكن التحرش في العمل يترك إحساسًا بالحصار "داخل سجن لا مفرّ منه".
يجمع كثيرون أن التحرش اللفظي والعنف والإساءة الكلامية ضد النساء ظاهرة تعرف انتشارًا سريعًا في الجزائر، خاصة ضد الطالبات والمراهقات والنساء العاملات، وقد اختارت العديد منهن الصمت والتجاهل والتعامل الروتيني مع هذه الظواهر المهينة، وبحسب العديد من الشهادات، يُشكل العنف اللفظي مطية إلى العنف المادي والتحرش الجسدي والاعتداء الجنسي.
التحرّش الإلكتروني
يعرّف التحرش بأنّه كل مضايقة أو فعل غير مرحب به، سواءً كان لفظيًا أو جسديًا، ويتضمن مجموعة من الأفعال التي تتراوح بين الانتهاكات البسيطة والمضايقات الخطيرة، كما يتضمن الألفاظ والتلميحات السيئة.
هنا، يشار إلى أن مواقع التواصل الاجتماعي أصبحت واحدة من الوسائل الحديثة التي تستخدم كمنصّات متاحة للتعدي على النساء عمومًا، خصوصًا اللواتي اقتحمن مجال العمل بقوة، والناشطات في المجال الاجتماعي والثقافي والدفاع عن حقوق المرأة، وقد تَعرضت كثيرات منهن إلى التشهير والدعاية الكاذبة، كما تسبب ذلك في فضائح لأكثر نسبة من المدونات من خلال تركيب صور فوتوشوب تحمل صورًا جنسية مفبركة ترسل عبر الفضاء الافتراضي العام.
التحرّش والابتزاز
تشتغل السيدة عزيزة عاملةً للنظافة في مؤسّسة خاصة للتنظيف، وهي مُطلقة ثلاثينية، كرسّت يومياتها لتربية اثنين من أبنائها، حيث دفعتها قسوة ظروف الحياة إلى البحث عن العمل، وحصلت بعد جهد على هذا العمل في شركة خاصّة تنشط في مجال التنظيف والتطهير.
أكدت المتحدثة في حديث لـ "الترا جزائر" معاناة العديد من عاملات النظافة مع العنف المعنوي جراء التحرش اللفظي"، وأضافت أن كثيرات منهن يشتغلن في المستشفيات والمراكز التجارية والإدارات الخاصّة والعمومية، دون حماية قانونية من طرف المسؤولين، لاعتبارهن أقلّ شأنًا من عمال المؤسّسات الذين يتمتعون بحقوق أكبر، وبالتالي فهُنَّ عرضة الاهانات والاحتقار والعنف الكلامي والمساومات.
توضّح عزيزة أن هنالك اعتقاد راسخ بأن أغلب عاملات النظافة من ذوات المستوى التعليمي الضعيف والقادمات من وسط اجتماعي هشّ، هن "سايبات و سهلات" بالتعبير العامي، أي أنهن متاحات أكثر لقبول هذا التحرش والمساومات الكثيرة لأنهن قررن ممارسة هذا العمل النبيل.
لهذا فإن الكثير من العاملات يفضلن الصمت وعدم التبليغ عن الاعتداءات اللفظية والتحرش الكلامي، خوفًا من الطرد والفصل عن العمل، على حدّ قولها.
الأسباب والنتيجة واحدة
في هذا السياق، يقول عمار بن طوبال، المختصّ في علم الاجتماع الثقافي، أن التحرش اللفظي اتجاه المرأة لم يكن غائبًا عن أي مجتمع، لكنه يتزايد تبعًا لزيادة أمرين، هما الاختلاط والحرمان الجنسي.
وأوضح بن طوبال أن الانخراط في المجتمع العولمي، والأخذ بأسباب الحداثة كسر الحواجز بين الجنسين ورفع كل مظاهر التمييز بينهما.
ويرى المتحدّث أن المرأة موجودة بكثرة في الفضاء العام، حيث تمتلك في المجتمعات الغربية تلك الثقافة التي تؤكّد أهمية التشارك بين الجنسين، لكن هذا "يتحوّل إلى مظهر من مظاهر الفسق والفجور في ثقافتنا".
يضيف الأخصائي أن الفرد الجزائري متشبع بالمورث الديني الذي يدين المرأة كلما ابتعدت عن الفضاء الحريمي، كما أن الخطاب المتداول مجتمعيًا يؤكّد على الحرمة والقيم العائلية، ما يجعل هذا الخطاب مجرد تفاخر بين الرجال، ولا يحتكم إلى المتغيرات الاقتصادية التي صارت فيها المرأة فاعلًا أساسيًا.
أكد بن طوبال أن العنف اللفظي والبدني مجرد تنفيس عن تأثيرات نفسية حادة لحالة التناقض، وأن أسباب تزايده اتجاه النساء هو الحرمان الجنسي مقابل التراكم والوفرة الظاهرة للمثيرات الجنسية للرجال.
وقال " إضافة للقيم الدينية التي تحث على العفة وتدين العلاقات الجنسية، هناك أسباب تقمع تلك الرغبة"، مضيفًا أن تركيبة المدينة الجزائرية ومختلف الفضاءات السكنية تأسسّت على حيز مشترك لا مجال فيه للخلوة الحميمية غير المبررة اجتماعيًا. وهي أزمة ثنائية تجمع بين وفرة الرغبة وشح الأمكنة، أيّ أنها أزمة المدينة العربية الحديثة.
ختم بن طوبال حديثه بأن هذا الحرمان غالبًا ما يتم التنفيس عنه لفظيًا من خلال الايحاءات الجنسية والكلمات البذيئة الموجهة إلى المرأة كنوع من التعويض.
يذكر أن القانون الجزائري ينصّ على عقوبات رادعة ضد التحرّش ضد المرأة والأطفال القصر، غير أن تطبيقها يتعارض مع عدّة عقبات بيروقراطية واجتماعية، إذ أن الضحايا مطالبون دائمًا باستحضار إثباتات قوية أمام القضاء، فضًلا على أن لجوء الضحايا للقضاء يؤدّي إلى تقديم تنازلات كثيرة وهي فقدان منصب العمل أو المنع من العمل أصلًا أو الخروج إلى الشارع وفق بعض العادات المجتمعية، ولذلك تلجأ الضحية للتكتم.
وتنص المادة 341 مكرر من قانون العقوبات الجزائري الخاصة بالتحرش الجنسي على أنه: "يعد مرتكبًا لجريمة التحرش الجنسي ويعاقب بالحبس من شهرين إلى خمس سنوات وبغرامة 50 ألف دينار جزائري (ما يعادل 640 دولارًا)، إلى 100 ألف دينار جزائري (1280 دولارًا)، كل شخص يستغل سلطة وظيفته أو مهنته عن طريق إصدار أوامر للغير أو بالتهديد أو الإكراه أو بممارسة ضغوط عليه قصد إجباره على الاستجابة لرغباته الجنسية".
وفصل القانون طبيعة العقوبات، إذ أشار إلى أنه "إذا كانت الضحية قاصرَا لم تتجاوز الـ 16 سنة، تُرفع العقوبة لتصبح من 10 إلى 20 سنة، وإذا كان المجني من الأصول أو من فئة من له سلطة على الضحية أو كان موظفَا أو من رجال الدين تُرفع العقوبة في هده الحالة إلى السجن المؤبد".
يتضح من خلال العديد من الشهادات أن ظاهرة التحرّش اللفظي أصبحت من بين المشكلات الاجتماعية المستعصية
يتضح من خلال العديد من الشهادات أن ظاهرة التحرّش اللفظي أصبحت من بين المشكلات الاجتماعية المستعصية، وفي ظلّ التحولّات المجتمعية وتمكن المرأة من احتلال فضاءات أوسع في مجال الشغل والقيادة والممارسة الميدانية، يبقى الفضاء العمومي حكرًا على السلطة الذكورية، وبالتالي لابدّ للمشرع الجزائري من مواكبة هذه الظواهر السلبية عبر تشديد العقوبات القبلية وردع المتحرّش، ضمانة للسلامة الصحيّة والنفسية للمرأة.
اقرأ/ي أيضًا:
لماذا لا ترث المرأة الأمازيغية في الجزائر؟
الأمازيغية في الجزائر.. من جحيم النضال إلى جنة الدستور