في الخامس من شهر كانون الأوّل/ديسمبر الماضي، حالف ثمانية أشخاص بحي القصبة العتيق بالعاصمة الجزائر الحظّ، بعد أن نجوا من الموت إثر انهيار جدار خارجي وسلالم بناية قديمة عليهم، غير أن هذا الحظّ قد لا يكون حليف آخرين مستقبلًا، مثلما يقول سكان هذا الحي التاريخي الذين ملّوا من مطالبة السلطات بترحيلهم إلى سكنات لائقة أو ترميم القصبة بشكلٍ جدّي.
رغم الأهمية الثقافية والتاريخية التي تميّز حي القصبة إلا أنه مازال عرضة للإهمال
ورغم صرف الملايير لترميم القصبة وحفظ قيمتها التاريخية، إلا أنّ السلطات تفشل حتى اليوم في تحقيق نتائج ملموسة تصون هذا الإرث الثقافي والعالمي الذي له قيمة خاصّة لدى الجزائريين والعاصميين بالخصوص.
اقرأ/ي أيضًا: لا خسائر في الأرواح في حادث انهيار عمارة بحي القصبة بالعاصمة
تراث محفوظ
يصف موقع يونسكو قصبة الجزائر بـ "أحد أجمل المواقع البحرية الواقعة على المتوسّط"، مشيرًا إلى أن القصبة قد عرفت "إنشاء مركز تجاري قرطاجي منذ القرن الرابع قبل الميلاد".
بُني حيّ القصبة على الجبل المطلّ على البحر المتوسط، بقاعدة هندسية فريدة تجعل ضوء يدخل كل البيوت المتلاصقة بحيث يمكن قطع المسافة من أعلى القصبة إلى أسفلها عبر سطوحها. أزقّتها الضيقة التي تشبه المتاهة إلى حدّ كبير، فالغرباء يظّلون طريقهم أو ينتهي بهم الطريق غالبًا في شارع متعرّج مسدود، وهو ما يفسّر أن حي القصبة بُني ليكون قاعدة عسكرية من طرف الأتراك.
تتميّز منازل حي القصبة بساحة مكشوفة مربّعة الشكل، تتوسّط كل ساحة نافورة مياه، ويبدو أن البيت الواحد هُيّأ لستكنه عدّة عائلات أو كان على الأرجح تسكنه العائلات الممتدة، ويشكّل نظام الريّ فيه أحد أبرز أنظمة السقي التي كانت تحتكم إلى النظم الاجتماعية المبنية على التعاون والتشارك.
يروي بعض سكانها أن عملية السقي التي كانت تتمّ بطريقة يدوية يتناوب عليها كل يوم أحد أفراد العائلة التي تسكن الحيّ، حيث تكون البئر غالبًا في الشارع مزودة بنظام سقي تقليدي، أما منظر البيوت من الخارج، فتلفت الناظر إليها شرفاتها المرفوعة على الأعمدة الخشبية العتيقة بشكلٍ مائل، ونوافذها الصغيرة المحروسة بقضبان حديدية، وأبوابها الخشبية المزيّنة بالأقواس المنقوشة.
وحسب اليونسكو، فإنّ القصبة "مدينة فريدة من نوعها بين المدن الإسلامية"، لأنها ليست مجرّد مكان تاريخي فحسب؛ وإنّما مكان ذكريات لقاطنيها، فهي تضم آثاربنايات ومساجد قديمة وقصورًا عثمانية، بالإضافة إلى أنها بنية حضرية تقليدية تتميّز بروح العيش مع الجماعة.
أدرجت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة قصبة الجزائر منذ 1992 ضمن قائمة التراث العالمي، حيث بُنيت القصبة بشكلها الحالي أو القريب إليه خلال فترة الحكم العثماني للجزائر، على أطلال المدينة الرومانية "إيكوزيوم" (التسمية القديمة لمدينة الجزائر) من طرف الأمير بولوغين بن زيري بن مناد الصنهاجي، وفق ما تقول الكتابات التاريخية
وإضافة إلى تاريخها الطويل المرتبط بحياة الجزائريين في عهد العثمانيين وخلال المقاومة ضدّ الاحتلال الفرنسي، فإن طابعها العمراني أكسبها قيمة تزداد أهميّة مع مر التاريخ، منها القصور التي قاومت الاندثار مثل قصر الداي (دار السلطان) وقصر الرياس وقصر خداوج العمية ودار عزيزة، إضافة إلى المساجد الموجودة بها، وفي مقدمتها جامع بتشين وجامع كتشاوة العتيق الذي أعيد ترميمه في السنوات الأخيرة بدعم من تركيا.
خسائر متكررة
رغم الأهمية الثقافية والتاريخية التي تميّز القصبة إلا أن الإهمال لازال لصيقًا بها، الأمر الذي جعلها تعرف من حين لآخر انهيارات تتسبب في خسائر مادية تستهدف آثارها، وخسائر بشرية تتمثل في سكانها الذين عاشوا بها أبًا عن جد.
في نيسان/أفريل 2019، عاشت القصبة يومًا مأساويًا لمّا لقي خمسة أشخاص من عائلة واحدة حتفهم إثر انهيار عمارة من أربعة طوابق غير بعيدة عن مسجد كتشاوة.
ونقلت الصحافة وقتها أن إدارة الوالي السابق للعاصمة عبد القادر زوخ الذي أودع منذ أيام سجن القليعة غرب العاصمة، لتورّطه في قضايا فساد اكتفت بدهن البناية من الخارج دون ترميمها، أثناء إعادة فتح مسجد كتشاوة بعد ترميمه في 2017، خلال حكم الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة.
وفي يونيو/جوان الماضي، شهدت القصبة انهيار بناية من ستّ طوابق، ولحسن الحظ أنها كانت خالية من السكان، ولم يسقط ركامها على المارة بالشارع الموجودة بها.
وفي حادث الخامس كانون الأوّل/ديسمبر المشار إليه سالفًا، وجدت أربع عائلات نفسها دون سقف يأويها بعد انهيار البناية المكونة من طابقين، وعلى عكس مرات عديدة حدثت مع عائلات أخرى، تكفلت السلطات المحلية هذه المرّة بالأسر المتضرّرة.
ويعيش أغلب سكان القصبة في بنايات مهددة بالانهيار بسبب قدم هذا الحي العتيق وفشل عمليات الترميم، وعدم اهتمام السلطات بالسكنات التي رحل قاطنوها، إضافة إلى أن تغيير شبكة المياه والصرف الصحي أثر على هذا الطابع المعماري المبنية بعض أسواره بالطين، حيث أن نظام السقي كان يعتمد على الآبار، ولكنّ مع مرور الوقت عمد سكّانها إلى إدخال قنوات المياه الحديثة وتزويدها بنظام الصرف الصحي، وبفعل التسرّبات المتكرّرة وعامل الرطوبة بدأت القصبة بالانهيار تدريجيًا.
دراسة جديدة
بعد ثلاثة أيام من حادث الانهيار بالقصبة الذي وقع في الخامس كانون الأول/ديسمبر الجاري، ترأس الوزير الأوّل عبد العزيز جراد مجلسًا وزاريًا مشتركًا خُصّص لدراسة الـملف الـمتعلق بحماية قصبة الجزائر، شارك فيها الوزراء الـمكلفون بالداخلية، والـمالية، والثقافة، والسكن، والسياحة، ووالي ولاية الجزائر.
وقال جراد إن الحكومة تنتهج الـمسعى الذي أوصت به لجنة التراث العالـمي لليونسكو، لحماية القصبة، كاشفًا أن تقريرًا حول وضعية حفظ قصبة الجزائر سيتم إرساله عن قريب إلى مركز التراث العالمي لليونسكو، تحسبًا لدورته الرابعة والأربعين، الـمقرّر عقدها في غضون سنة 2021.
وأمر الوزير الأول بإيلاء الأهمية للجانب الـمؤسّساتي الـمخصص لتسيير برنامج إعادة تأهيل قصبة الجزائر وحفظها، ليكون قادرًا على الاستجابة لـمتطلبات التنسيق الدائم لمختلف الـمتدخلين في هذا البرنامج.
ووجه الوزير الأول تعليمات إلى جميع القطاعات الـمعنية لحملها على إعداد خارطة طريق مشتركة من أجل وضع إستراتيجية شاملة لحماية قصبة الجزائر، مع التأكيد على أنه سيحرص على متابعته بهدف ضبط الـمساعي التي باشرتها مختلف القطاعات من أجل ضمان تكفل أفضل بهذا الـملف، وفق ما جاء في بيان للوزارة الأولى.
وكشفت وزيرة الثقافة والفنون مليكة بن دودة مؤخرًا عن إنجاز مشاريع جديدة قريبًا من أجل حماية القصبة، والاستغلال التجاري لقلعة الجزائر (القصبة العليا) التي افتتحت جزئيًا مؤخرًا أمام الزوار في إطار شراكة مع مؤسسات صغيرة.
تخوفات كبيرة
الأكيد أن التفاتة الحكومة ككلّ للاهتمام بقصبة الجزائر بادرة تستحق التنويه، غير أن الممارسات السابقة التي تمت بحجّة حماية هذا المعلم التاريخي تبعثّ تخوّفات لدى مهتمّين بالعمران الجزائري من إمكانية تكرار عمليات نهب المال العمومي تحت غطاء الاهتمام بالقصبة.
في سنة 2018، نقلت صحيفة "الشروق اليومي" عن المهندس الألماني أرمين دور الذي شارك في ملتقى جرى بالعاصمة الجزائر، قوله إن إعادة إعمار مدينة نورمبورغ الألمانية التي تعرّضت لشبه دمار كلي عقب الحرب العالمية الثانية لم تصل تكلفتها لما تم صرفه على قصبة الجزائر.
وفي السنة نفسها منح الوالي السابق عبد القادر زوخ المحسوب على نظام الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة، صفقة إعادة ترميم القصبة لمكتب فرنسي بعد توقيع اتفاق بين ولاية الجزائر وإقليم إيل دو فرانس وورشات جون نوفال. وقالت إدارة زوخ وقتها إن القيمة المالية لإعادة الترميم قد بلغت 26 مليار دينار (ما يقارب 220 مليون دولار أميركي).
وأثارت تلك الصفقة وقتها جدلًا بسبب منح ترميم القصبة التي كانت شاهدة على بطولات الجزائريين في ثورة التحرير ضد الاستعمار الفرنسي لممثلي المحتل السابق، خاصة بعدما تم تجاهل المهندسين الجزائريين وعدم اللجوء إلى مختصين في هذا المجال ممن لديهم دراية بالطراز العمراني العثماني.
وفي عهد وزيرة الثقافة السابقة خليدة تومي الموجودة هي الأخرى رهن الحبس الاحتياطي، تم صرف نحو 800 مليون دولار من أجل ترميم القصبة ضمن برامج ضاع تنفيذها بين " المخطط الدائم لحماية القصبة" و"الوكالة الوطنية للقطاعات المحمية"، وهي أموال لم تساهم حتى اليوم في إنقاذ القصبة من خطر الانهيار الذي صار يهدم جدرانها من حين لآخر، الأمر الذي يجعل الكل يترقب مدى قدرة حكومة عبد العزيز جراد على وضع حد لفساد الإدارات التي استلمت ملف القصبة وإنقاذ هذا الإرث الإنساني العالمي من التدمير والاندثار.
عائلات كثيرة تعود إلى حيّ القصبة بعد ترحيلها إلى سكنات جديدة
ما يحدّث غالبًا بحسب شهادات بعض سكان حيّ القصبة، هو أن عائلات كثيرة تحتفظ بمفاتيح بيوتها للعودة إليها بعد الترحيل إلى سكنات جديدة، أو يقومون ببيعها أو إيجارها لآخرين أو منحها لأبنائهم وأقربائهم، حيث تُستغل هذه السكنات لإيداع ملفات الحصول على سكنات إجتماعية جديدة، تمنحها السلطات لقاطني البنايات الهشة، لتبقى الحكومات المتعاقبة تدور في حلقة ترحيل السكّان وإنفاق الميزانيات على الترميم.
اقرأ/ي أيضًا:
القصبة العتيقة تنهار.. الإنسان والتراث مهددان في الحي الأثري