كانت "أسواق الفلّاح" التي أثمرتها سياسة الاقتصاد الموجّه في العقود الثلاثة التي تلت الاستقلال الوطني، 1962، أوّل تجربة للسّوق المغطّى في الجزائر المستقلّة، وشكّلت بديلًا للأسواق الشّعبية الأسبوعية المفتوحة على الهواء الطلق، خاصّة من زاوية كونها يومية، وكون أسعارها رمزية.
مثل افتتاح أكبر مول في الجزائر وهو ثاني أكبر مركز تجاري أفريقي حدثًا في الجزائر وأثار آراء مختلفة حوله
بعد تحرير الاقتصاد في تسعينيات القرن العشرين، وخصخصة كثير من المؤسسات العمومية، ظهرت أسواق مغطاة في معظم المدن، لكنها لم ترقَ إلى المعايير الدّولية التي تجعلها جديرة بتسمية "المول"، من حيث المساحة ومن حيث الخدمات ومن حيث الانفتاح على مختلف الماركات العالمية.
اقرأ/ أيضًا: أيها الزبائن.. الشركات تلهث خلفكم!
من هنا، شكّل افتتاح "مول بارك" في قلب مدينة سطيف، 300 كيلومتر شرقًا، يوم الرّابع من شهر شباط/فبراير 2016، حدثًا وطنيًا استقطب الوزراء والسّفراء والمدراء والإعلاميين والفنانين ورجال الأعمال والمواطنين من معظم المحافظات، خالقًا حالة من الدّهشة والانبهار، بالنظر إلى أناقة تصميمه وشساعة مساحته وتنوّع خدماته ومعروضاته.
يبلغ ارتفاع البرجين المشكّلين للمركز 85 مترًا، وتبلغ المساحة المخصّصة لمحالّه التجارية 41 ألف متر مربّع، بالإضافة إلى فندق وقاعة للمؤتمرات بـ1000 مقعد، ومساحة للتزلّج بـ400 متر مربع ومطاعم ذات اهتمامات محلية وأجنبية وطابق للألعاب العصرية الخاصّة بالكبار والصّغار. بهذا، يكون هذا المركز الأكبر في الجزائر، وثاني أكبر مركز تجاري أفريقي.
يلمس الزّائر للمدينة بسهولة اختلاف سكانها في النظر إلى المشروع، بين اعتباره مكسبًا منح للمدينة روحًا جديدة، واعتباره ثمرة لسياسة النّهب والغش التي تؤطر علاقة الحكومة برجال الأعمال. يقول سائق الأجرة فريد شتّيح إن "المدينة كانت تنام باكرًا، لكنّها تركت هذه العادة السيّئة الموروثة عن سنوات العنف والإرهاب، منذ تمّ تدشين هذا المول قبل عشرة أشهر".
ويضيف: "ما يهمّ المواطنَ إن كانت أموال المشروع نظيفة أم وسخة، ما دام يجد فضاء مكيّفًا يقضي فيه أوقات فراغه، في مدينة تندر فيها الفضاءات المخصّصة لذلك، رغم أنها ثاني أكبر مدينة بعد الجزائر العاصمة من حيث الكثافة السكّانية؟". ويوضح: "علينا ألا ننسى، ونحن نقيّم المشروع، مئات مناصب الشّغل التي وفّرها، وآلاف الفرص التي يستفيد منها محيطه. أنا مثلًا زاد مدخولي، بسبب كثافة الإقبال على خدماتي".
من جهته، يقول محسن الذي يدرس علم الاجتماع في جامعة المدينة، إن المول ثمرة لثقافة ليبيرالية لم تتكرّس ملامحها في المدينة الجزائرية بعد، ممّا يجعله مشروعًا مفصولًا عن سياقه الاجتماعي العام. يسأل: "هل نتوفر على مقهى محترف ومطعم محترف وفندق محترف وقطار محترف وحديقة محترفة، حتى ننتقل إلى مرحلة المول؟". هنا يتهم طالب علم الاجتماع الحكومات الجزائرية المتعاقبة بالتأخر في تحديث البنيتين الاجتماعية والاقتصادية للمجتمع، "كنا قادرين على الوصول إلى إنجاز هذه المشاريع نهاية الثمانينيات. إنه من المثير للدهشة ألا يرى الجزائري مولًا إلا بعد مرور ستّين عامًا على الاستقلال، رغم آلاف مليارات الدّولارات التي يقول النظام إنه صرفها على التنمية المحلية".
يرى البعض أن "المول" ثمرة لثقافة ليبرالية لم تتكرّس ملامحها بعد في المدينة الجزائرية، ممّا يجعله مشروعًا مفصولًا عن سياقه العام
اقرأ/ أيضًا:التقدم التكنولوجي يقتل المنتجات في سن مبكرة
تعمّدنا أن ندخل المول من جهة الموقف المخصّص للسيّارات، حتى نرصد طبيعة الجهات التي جاء منها الوافدون عليه، ذلك أن لوحات ترقيم السيّارات في الجزائر تتضمّن أسماء المحافظات، فأدهشنا وجود 19 محافظة دفعة واحدة، كانت برج بوعريريج أقربها، 65 كيلومترًا، ووهران أبعدها، 800 كيلومتر. يقول فيصل القادم منها: "خضعت لفضولي وفضول زوجتي في قطع هذه المسافة، وأصارحكم بأنني لم أندم، علمًا أنني لم أمسح إلا نصف مساحة المركز". يضيف: "كنا لا نرى هذه الفخامة إلا عندما نذهب إلى الخارج، أحيانًا في دول أقلّ قدرة مالية منا".
عند المدخل الرّئيسي، يتواجد أطفال يبيعون البالونات الملوّنة، وبعض المهرّجين الذين يلهون الناس عن طول الطابور وصرامة الإجراءات الأمنية. كان يهمّنا أن نتموقع عشرين مترًا بعد الدّخول، لمعاينة ردود أفعال الوافدين أمام ما يواجههم من مظاهر الأناقة، فكانت "واو" أكثرَ الكلمات التي قيلت، وسحبُ الجوّال للتصوير أكثرَ الحركات التي أنجزت. "هل نحن في الجزائر أم في الخليج العربي؟". تساءلت إحدى الفتيات. "أقسم إنني لن أخرج من هنا حتى موعد الإغلاق". قال شابّ لصديقه.
غيّرنا بؤرة الاهتمام من رصد ردود الأفعال عند المدخل، إلى رصد طبيعة التصرّف داخل الفضاءات المختلفة، فلاحظنا أنّ الذين لم يلتقطوا صورًا عند تفاصيل المكان، بما فيها غير المهمّة أحيانًا، كانوا قلّة، وكانت معظم تلك الصّور والفيديوهات تذهب إلى "فيسبوك" مباشرة. بعضهم، إمّا من باب المزاح وإمّا من باب التحايل، أشار إلى أنه متواجد في إحدى الدول الغربية أو العربية.
كان الجميع يرمون بقاياهم في السّلال المخصّصة لذلك، عكس ما هو حاصل في الشوارع والسّاحات العامّة. برّر أحدهم ذلك بأن الجزائري يلتزم بأصول العيش المشترك، في الفضاءات التي تفرض عليه هيبة القانون، "هل رأيت جزائريًا يرمي ولو عود ثقاب في المطار؟". أضاف: "حتى طريقة المغازلة بين الطرفين، أصبحت مختلفة داخل المول، كما أن ردود أفعال الآباء والأمّهات تتميّز بالتساهل في هذا الباب".
يقول عبد الواحد فركاش، مستشار التسويق لدى شركة تركية متخصّصة في الألبسة الدّاخلية، إنه مكث أسبوعًا داخل المول لمعاينة السلوك الاستهلاكي للمواطن الجزائري، "ولاحظت أنّ الإقبال على الماركات العالمية من عطور وقبّعات وبدلات رجالية وألبسة داخلية وماكياج وساعات ونظّارات، كان أقوى لدى ذوي الدّخل المحدود منه لدى الطبقة البرجوازية". ويبرّر ذلك: "في الجزائر يفتقد المواطن إلى الفرص التي يُصادف فيها الماركات العالمية التي يكبر على السّماع بها ومشاهدتها في الإشهارات، فيُقبل عليها حين يُتاح له ذلك من باب التعويض". يختم: "لطالما سمعت بعض هؤلاء يقولون إنهم يستمتعون بأن يكونوا برجوازيين ولو ليوم واحد".
اقرأ/ أيضًا: