26-أكتوبر-2019

ظاهرة التسوّل في الجزائر في انتشار مستمرّ (فاضل سنة/ أ.ف.ب)

طفل في العاشرة تقريبًا من عمره، يحمل كيسًا بلاستيكيا ويتنقل داخل قطار الضاحية الشرقية بين مدينة الثنية والجزائر العاصمة، يقدّم إلى مجموعة الجالسين، ويخرج من كيسه مجموعة من كتيبات "حصن المسلم" ذات الأغلفة البرتقالية، لمؤلّفها سعيد بن علي بن وهب القحطاني، ويُسلّم كل جالس نسخة منه.

بيع من المناديل والكتيبات الدينية أصبح من الأشكال المبتكرة للتسوّل "بالبيع"، التي بدأت تنتشر في المدن الجزائرية الكبرى خصوصًا  العاصمة

يعتقد البعض أن الأمر من فعل "جمعية خيرية"، وأن الكتيبات مجّانية (وهي مجّانية في الأصل)، غير أن الطفل سرعان ما يعود ليجمع المال نظير تلك النسخ التي وزّعها، طمعًا في جمع أكبر مبلغ ممكن، وتتغيّر ملامحه هذه المرّة ويبدو أكثر مسكنة.

اقرأ/ي أيضًا: التسول والاستغلال.. واقع لاجئات سوريات بالمغرب

بعض الراكبين يسلّم الطفل مبلغًا من المال، وبعضهم يشعر أنه غير معنيٍّ بالأمر، لأنّه رفض منذ البداية استلام النسخة، وكثيرٌ منهم يُعيد الكتيّب إلى صاحبه، معتذرًا بشكل أو بآخر، لينطق أحدهم معلّقا على الأمر: "هذا نوع جديد من التسوّل.. هو تسوّل غير مباشر أو تسوّل بالبيع"، ويرد آخر قائلًا: "إن هذا السلوك لم يكن معروفًا في الجزائر، لكنه بدأ ينتشر في السنوات الأخيرة، بأشكال مختلفة".

العطور والمناديل الورقية

وفي مشهد آخر يُشبه مشهد بائع "حصن المسلم"، تجلس سيّدة منقّبة تبدو في منتصف العمر، على حافة الشارع، وتضع أمامها مجموعة من الكتيبات والمناديل الورقية، وتحمل بين يديها مصحفًا، كأنها تقرأ منه ولا تلتفت إلى أحد، لكنّها تضع أمامها إناءً لجمع ما يجود به المارّة، مقابل الحصول على بعض المناديل، أو حتى بدون أيّة خدمة.

هي الأشكال المتعدّدة والمبتكرة للتسوّل "بالبيع"، التي بدأت تنتشر في المدن الجزائرية الكبرى وخصوصًا الجزائر العاصمة، ومن أشهر أساليبها وأكثرها انتشارًا بيع المناديل الورقية الذي يُمارسه أشخاص من الجنسين وخصوصًا النساء المتقدّمات في السن، كما يبيع آخرون قارورات الماء صغيرة الحجم وخصوصًا في فصل الحرّ، أملًا في الحصول على ضعف سعرها.

ويلجأ شباب أنيقون إلى إحراج المارّة، طمعًا في بيعهم مستخلصات من العطور، ويعتبر البعض الأمر الذي يزيد عن حدّه في بعض الأحيان نوعًا من التسول بالبيع، في وقت يقول فيه آخرون أنه نوع آخر من التسويق.

إلى عهد قريب، كان المتسوّل في الجزائر، يمارس نشاطه بشكل مباشر مستخدمًا في بعض الأحيان أساليب معروفة من أجل استعطاف الناس، منها حمل بعض الأطفال الرضّع أو حمل وصفة طبية أو التركيز على الإعاقة، وهي الأساليب التي ما تزال منتشرة، على أنها الأساليب الجديدة بدأت تزاحمها.

يرى مراقبون أن الأساليب الجديدة للتسوّل في الجزائر، تكون قد دخلت البلاد في السنوات الأخيرة تقليدًا للمتسولين القادمين من بلاد الشام أيّام الحرب في سوريا المدمّرة، حيث استقبلت البلاد الكثير من اللاجئين؛ كثير منهم اتجه إلى التجارة مثل فتح المطاعم، وبعض منهم احترف التسّول بطريقة لم تكن معروفة في الجزائر وحقّقوا مكاسب كثيرة.

مهنة جديدة

لكن الصحافي إسلام رخيلة يرى عكس ذلك، ويربط الأمر بانتشار مواقع التواصل الاجتماعي وانتشارات الثقافات الإيجابية والسلبية على حدٍّ سواء واقتباسها من مجتمعات أخرى، كما يقول إنها تذكّره " بقصّة الرسوم المتحركة الشهيرة بائعة الكبريت، والتي تلخّص قصّة فتاة في سن البراءة تقوم ببيع علب كبريت في ليالي باردة وممطرة، تحت ظروف قاسية وسط الشوارع لكسب قوتها اليومي ومواصلة دراستها في المدرسة".

ويرى رخيلة في تصريحه لـ"الترا جزائر" أنّ "الطريقة التقليدية للتسوّل باتت لا تدرُّ دخلًا وفيرًا لأصحابها، نظرًا لانتشار التسوّل الكاذب، لذا أصبح المتسوّلون يستخدمون طرقًا كثيرة، هدفها تحريك مشاعر المواطنين واستعطافهم لمنحهم قطعًا نقدية".

من جانبه يؤكّد ناجح مخلوف، أستاذ علم الاجتماع بجامعة المسيلة شرقي البلاد، أن "التسوّل بالبيع أو ما يُسمّى كذلك التسوّل بتقديم خدمة، هو أحد أشكال التسوّل والتي تمارس عن طريق بيع المناديل الورقية وبعض الكتيبات الدينية صغيرة الحجم، وبعض الأشياء الصغيرة، والملاحظ هنا هو عدم تحديد سعرٍ لها، والهدف منها هو تحريك مشاعر الشفقة وكذلك إثارة العواطف وكأن المتسوّل يريد تمرير رسالة قيمية، أنني أمارس مهنة بيع ولستُ متسولًا".

يؤكد الأكاديمي ناجح لـ"الترا صوت"، على صعوبة رصد هذه الظاهرة "لعدم وجود إحصائيات دقيقة لفئة المتسوّلين، وعدم وجود دراسات وأبحاث جادّة في هذا المجال، إضافة إلى أنّ التسوّل يشكّل مناخًا خصبًا لانتشار الجريمة بكلّ أشكالها، فهو المنفذ الوحيد للحصول على أموال بدون مشقّة، خاصّة في ظل التغيرات والمتطلبات التي يحتاجها المجتمع".

يرى البعض أن ظاهرة التسوّل بالبيع أقلّ حدّة من التسوّل بالأطفال أو الوصفات الطبية

ومهما كانت الأسباب، فإن الظاهرة في انتشار مستمرّ، وفي الوقت الذي يذمّها البعض، فإن البعض الآخر يرى فيه أوجهًا إيجابية، فعلى الأقلّ يكون المتسوّل الكسول قد تخلّص من سلوكه القديم، ويقوم بخدمة ولو بغير قيمتها، وبعضهم يقدم خدمات جمالية مثل بائع المزامير الذي يعزف ألحانًا حزينة لافتًا الانتباه إلى زبائن سحرهم اللحن، وراح بعضهم يشترى مزمارًا بضعف ثمنه الحقيقي.

 

اقرأ/ي أيضًا: 

حيل المتسوّلين في الجزائر

فقراء في الجنوب الجزائري الغني بالنفط!