12-سبتمبر-2019

المؤرّخ بلقاسم باباسي رحل عن عمر ناهز 80 عامًا (الصورة: ديا ألجيري)

ثمّة مدنٌ تفقد روحها بفقدان معلمٍ من معالمها. منها مدينة الجزائر العاصمة إذا فقدت قصبتها، التّي تتوسّطها اليوم تمامًا، فيما كانت سابقًا تشكّل معظمها، أيّ منذ شيّدها الأتراك، بعد دخولهم للفضاء الجزائري الشّماليّ، مطلع القرن السّادس عشر، واتخذوا منها مقرًّا لحكمهم، الذّي سقط بدخول الفرنسيّين عام 1830.

أقدم بلقاسم باباسي رفقة نخبة من المهتمّين على بعث "مؤسّسة القصبة" عام 1991

لعبت القصبة دورًا حاسمًا في الحفاظ على ملامح الهوّية الجزائريّة العاصميّة، خلال سنوات الاحتلال الفرنسيّ، ثمّ خلال ثورة التّحرير (1954 ـ 1962)، حيث احتضنت الثوّار ووفّرت لهم التّغطية والسّلاح، فكانت "معركة الجزائر"، التّي كانت القصبة مسرحًا لها نقطة انعطاف في تاريخ الثورة الجزائريّة عام 1957، كما شاهدنا ذلك في الفيلم، الذّي حمل العنوان نفسه، وشارك في إخراجه وكتابة السّيناريو الخاصّ به الإيطالي جيلوبونتيكورفو عام 1966.

اقرأ/ي أيضًا: ماذا لو تكلمت قصبة الجزائر؟

عملت منظمة اليونيسكو عام 1992 على تصنيف القصبة ضمن التّراث الإنسانيّ. وخصّصت الحكومة الجزائريّة يوم 23 شباط/فبراير يومًا وطنيًّا خاصًّا بها، غير أنّ ذلك لم يحصِّنها من فقدان ملامحها تدريجيًّا، حيث تساقطت بعض بناءاتها وتشوّه كثير من فضاءاتها، واختفت معظم مهنها وفنونها وطقوسها، فبات ذكرها مرتبطًا بالفقد والزّوال.

ولولا بعض الباحثين والمؤرّخين، الذّين أحبّوها وسخّروا أقلامهم وجهودهم لتوثيق تاريخها، والنّضال من أجل لفت الانتباه إلى جمالياتها والخرابات، التّي ظلّت تلحق بها، لكانت الخسارة أكبر.

يأتي المؤرّخ المتخصّص في تاريخ القصبة تحديدًا بلقاسم باباسي (1939 ـ 2019)، في مقدّمة هؤلاء الباحثين، حيث كان هاجس الحفاظ على تراث القصبة وتسويقه مسيطرًا على يومياته، هو الذّي ولد فيها والتحق بصفوف الثورة، قبل أن يتمّ عقده الثاني، فبات عارفًا بتفاصيل الأمكنة، في أعرق حيّ في الجزائر العاصمة، وملمًّا بأحداثها وأحاديثها.

نقل هذه الأحاديث والأحداث في الحصص، التّي كان يقدّمها في الإذاعة والتلفزيون، خاصّة إذاعة "البهجة"، التّي أخذت اسمها من الاسم الثاني للجزائر العاصمة، وتخصّصت في فنونها وثقافاتها وتاريخها، فكان صوته يطلع من خلالها كلّ صباح ساردًا حكاية من حكايات القصبة أو مذكّرًا بملحمة من ملاحمها أو مندّدًا بتقصير معيّن في حقّها.

أقدم رفقة نخبة من المهتمّين على بعث "مؤسّسة القصبة" عام 1991. فكانت في طليعة الهيئات المدنيّة، التّي ثمّنت تراث المكان ونفضت عنه الغبار، من خلال النّدوات والجلسات الفكرية والنّشريات والكتب والأشرطة الوثائقيّة، والتّنسيق مع الهيئات الحكوميّة الجزائريّة والغربيّة لأجل توثيق ذلك.

بلقاسم باباسي كان يعشق قصبة الجزائر، فخدمها بصفته فردًا أكثر ممّا خدمتها وزارة الثقافة بصفتها هيئةً

يقول الإعلاميّ زبير فاضل لـ"الترا جزائر" إنّ الانخراط في خدمة تراث وآثار وثقافة وفنّ مكان معيّن لا يستمرّ بالحرارة والحرص نفسيهما إلّا إذا ارتبط بالعشق، "وبلقاسم باباسي كان يعشق قصبة الجزائر، فخدمها بصفته فردًا أكثر ممّا خدمتها وزارة الثقافة بصفتها هيئةً. ولئن سخّر حياته للحفاظ على تراث واحد من أعرق معالمنا، فمن واجبنا، بعد رحيله، الثلاثاء، أن نعمل على حفظ تراثه الشّخصي".

اقرأ/ي أيضًا: 

القصبة العتيقة تنهار.. الإنسان والتراث مهددان في الحي الأثري

قصبة الجزائر.. الحمار ينافس الشاحنات لنقل النفايات