صار راسخًا في المخيال الجزائري ربط منطقة القبائل بقراها، فالمنطقة عبارة عن جمع من القرى والمداشر المتناثرة عبر الجبال، تبدو بعضها ظاهرة من بعد فيما يختفي بعضها الآخر بين السحب، حقيقة جغرافية ولّدت في نفوس قاطنيها نوعًا من الإرادة الفولاذية التي لا تنكسر ونوعًا من الإصرار ونزوعًا فطريًا نحو مقاومة الواقع والعمل على تحسينه، مما جعلها، لدى الكثيرين، نموذجًا في العمل الجماعي واللحمة المجتمعية ونموذجًا رائعًا في التكافل والتعاون، لقد كانت قرى منطقة القبائل ولا تزال مادة حيّة لعديد البحوث والدراسات في علم الاجتماع لفهم بعض السلوكات التي ينتجها الأفراد والجماعات هناك.
في القبائل نادرًا ما يلجأ المتخالفون للعدالة والمحاكم، ففي النسيج المجتمعي سلطة عليا تسمى "ثاجماعث" تعتبر بمثابة برلمان للقرية
في منطقة القبائل، نادرًا ما يلجأ المتخالفون للعدالة والمحاكم، ففي النسيج المجتمعي سلطة عليا تسمى "ثاجماعث" تعتبر بمثابة برلمان للقرية، تحل فيه جل المشاكل بطريقة ودية، صورة جميلة ونقطة ضوء يجب الإشادة بها. فمهما كان نوع الخلاف سواء عائليًا أو ماليًا أو خصومة بين أهل البيت الواحد حول قطعة أرض، أو دعوة لمساعدة محتاج أو مريض فإن أول من يعلم بذلك هم أعيان "ثاجماعث" والذين قام أهل القرية بانتخابهم في صورة فعلية لمفهوم "الديمقراطية التشاركية التي تنادي بها كبرى التشكيلات السياسية.
اقرأ/ي أيضًا: شعر أمازيغ الجزائر.. ذاكرة الألم
يتم اختيار أعضاء المجلس بطريقة شفافة في ساحة القرية أو في مكان مغلق داخلها حيث يكون حضور الأفراد إجباريًا، يتولى "مجلس ثاجماعث" تسيير شؤون القرية والعمل بالتشارك مع السلطات المحلية والسكان في شتى مجالات الحياة، من المعتاد أن تتشكل "ثاجماعث" من أشخاص كبار في السن محمّلين بشحنة هائلة من تجارب الحياة، ومعهم مجموعة من شباب القرية المثقفين وأشخاص بسطاء، إنها تمثيل فعلي لكل سكان القرية، ومزيج رائع من أهل الحكمة وذوي الحماس، كل ذلك في سبيل خدمة أهل القرية بقدر المستطاع.
يقول سمير أحد أعضاء "ثاجماعث" في قرية التل الأحمر بمحافظة البويرة، شرقي الجزائر العاصمة: "نسعى لنكون همزة وصل بين السكان والسلطات من جهة وكذلك لنكون صوت العقل حين تنشب خلافات داخل القرية، نحاول قدر الإمكان أن تنتهي كل الخصامات بطريقة ودية في مجلس صلح يحضره العقلاء والمتخاصمون، نبذل قصارى الجهد كي يكون اللجوء للمحاكم أخر حل متوفر في حالة ما لم نوفق في حل المشكل". ويضيف: "نساعد العائلات المعوزة بالسعي لها لدى المحسنين من أهل القرية، نمتلك خزينة نساعد بها شبابنا الراغبين في الزواج وكذلك مرضانا ممن يتطلب علاجهم تنقلاً إلى خارج الوطن، نسعى كذلك لإطلاق بعض المشاريع التي تضمن فرص شغل للعائلات خاصة للنساء الماكثات بالبيت، نحن نحاول العمل على كل الجبهات. تستعصي علينا فقط مشاريع كمدّ الكهرباء والماء والغاز التي تتطلب تدخلًا مباشرًا من الدولة وميزانية مالية معتبرة".
يتداول كثيرون حول زيارة كارل ماركس للقبائل وما قاله عن " ثاجماعث" ودورها كطريقة في التسيير الاشتراكي لشؤون القرية
ويترأس مجلس ثاجماعت "الأمين" ويساعده في مهمته "الطامن" و"الوكيل" ومساعدون آخرون يتولى كل واحد منهم مهمة معلومة كجمع المال أو النداء للمجالس أو فك الخصام وغيرها، وتنعقد مجالس دورية يحضرها جميع السكان يتم فيها طرح المسائل ومناقشتها كما يدعو المجلس لاجتماعات استثنائية حين يكون الأمر ضرورياً، ولجعل الأمر ذا قيمة فإن المجلس يفرض غرامات مالية على المتغيبين من دون عذر. ولقد تداول الكثيرون أحاديث عن الزيارة الشهيرة للمفكر العالمي كارل ماركس لمنطقة القبائل والكلام الذي قاله عن "مؤسسة ثاجماعث" ودورها الاقتصادي والاجتماعي كطريقة في التسيير الاشتراكي لشؤون القرية، وقد دوّن بعض ما لاحظه في كتابه الشهير "الرأسمال".
اقرأ/ي أيضًا: بنو مزاب.. ملائكة التجارة في الجزائر
لا تختص منطقة القبائل فقط بهذا النظام الاجتماعي في الجزائر، ففي قصور بني ميزاب أيضاً في مدينة غرداية، نجد ما يشابه هذا النموذج في التكافل بين الأهالي والتشارك في أمور التسيير والتدبير، إضافة لحالات انفرادية في مناطق أخرى، صور بدأت مؤخرًا في الزوال بفعل عوامل عدّة جعلت من القرى والمدن تفقد شيئًا من لحمتها وتعاني تفككًا في النسيج الذي كان يربط سكانها.
اقرأ/ي أيضًا: