18-أكتوبر-2024
تفاح الأوراس شرق الجزائر (صور: الترا جزائر)

تفاح الأوراس وثورة الأرض (صور: الترا جزائر)

الطرق الجبلية التي يقطعها المهندس المتقاعد، عبد القادر، بين إينوغيسن وإشمول بولاية باتنة شرق البلاد، ثم الذهاب يمينا إلى لمصارة، أو لزيارة فلاحين في شيليا وبوحمامة يسارا، والعودة عبر يابوس والكانتينة التابعة لولاية خنشلة، مختلفة تماما عمّا كانت عليه قبل أكثر من ثلاثة عقود من الزّمن.

من خصائص هذه السلسلة الجبلية الممتدة من بوحمامة ولمسارة ويابوس وشيليا، مؤهلة لإنتاج التفاح الممتاز

ينظُر عبد القادر يميناً وشمالاً إلى تجمّعات سكانية ممتدّة من بساتين التفاح المنتشرة على مدّ البصر، يتأمّل آلاف الهكتارات المنتِجة لأنواع الغولدن، والراد ديليسياز المسماة الكبدة، والروايال والغالا، المحمية بالشباك الواقي من عدوها اللدود البَرد.

من النسيان إلى جنان الأرض

يتنّهد الخبير الذي واكب غراسة أولى بذور التفاح مع الألمان، ثم يقول مفتخرا لـ " الترا جزائر": " اشتغلت هنا مع مؤسسة جيتيزاد الألمانية، وكل هذه المناطق كانت شبه جرداء سوى من زراعات عائلية، وكنّا في نهايات الثمانينيات وبداية التسعينيات لا نجد حتى الخبز في محلاّت هذه البلدات فنضطر لجلبه من مدينة خنشلة".

هنا واليوم، ولد عالم آخر .. هناك محلّات ومطاعم وحركة نشاط فلاحي وتجاري، ذلك ما انعكس بالثراء على العائلات، فضلا عن استثمارات متنامية، إذ أخرجت هذه الفاكهة المناطق المنسية من جحيم الفقر إلى جنان النعيم. 

تفاح باتنة

البذرة الألمانية

تُنتج بلديات بوحمامة وشيليا ويابوس ولمسارة بولاية خنشلة، وبلديات باتنة المتاخمة لها، وهي إينوغيسن، وإشمول ووادي الطاقة ومريال ثم حيدوسة في مروانة، زهاء 70% من هذه الفاكهة على المستوى الوطني.

كما تقدّر المساحات المنتجة 6 آلاف هكتار بخنشلة، وقرابة 5 آلاف هكتار في ولاية باتنة، بمنتوج سنوي قدّر بـ 1.6 مليون قنطار لكل واحدة منهما، أي بإجمالي 3.4 مليون قنطار، من أصل 5 ملايين قنطار منتجة سنويا في الجزائر، فيما يتوزع 1.6 مليون قنطار المتبقي على مجمل ولايات الهضاب الممتدة شرقا وغربا، بما فيها ولايتي المدية وسيدي بلعباس المقدر إنتاجهما بـ 700 ألف قنطار.

لم تكن ثلاثة أرباع  ثمرة التفاح المحصورة في نطاق ولايتي باتنة وخنشلة شيئا يُذكر خلال بداية الثمانينيات، كما تغيّر الأمر قبل التسعينيات، وفي هذا الصدد قال الخبير عبد القادر لـ " الترا جزائر": " اشتغلت، في 1988 مع فريق جيتيزاد الألماني في إطار الشراكة مع الجزائر، على مشروع فلاحي رعوي و غابي، يهدف لكيفية إخراج ساكنة هذه المناطق من الفقر عبر تنمية اقتصادية، فاتّضح للألمان أنّ خصائص هذه السلسلة الجبلية الممتدة من بوحمامة ولمسارة ويابوس وشيليا، مؤهلة لإنتاج التفاح الممتاز لتوفر العلو و البرودة، فالتفاح هو من فصيلة الورديات ذات البذور و البراعم التي تنمو في طقس بارد، و هكذا تقرر بداية الملحمة عبر إنشاء بساتين نموذجية في هذه البلديات الأربع كمحطات نموذجية"

ويضيف ياسين ناصري رئيس تعاونية تفاح بوحمامة ورئيس شعبة التفاح للغرفة الوطنية للفلاحة لـ " الترا جزائر" مفصّلا: " كان البعض يعتقد أن التفاح الذي كان يُزرع هنا مع المشمش والحبوب هو لمجرّد اقتصاد الكفاف العائلي ولا يمكن التوسع فيه لعدم صلاحيته، لكن البساتين النموذجية التي غرست فيها 300 شجرة في كل واحدة منها، سرعان ما أعطت نتائج باهرة في ظرف ثلاث وأربع سنوات بتفاح غليظ وملقّح شبيه لما كان يُستورد من الخارج، وطبعا شجع هذا على الانخراط الجماعي في المشروع  بما أنّ سعر التفاح المستورد كان يباع بـ 400 دج للكيلوغرام مقابل 120 دج للتفاح الذي يُنتَج محليًّا".

تفاح باتنة وخنشلة 1

توفير العملة الصعبة

سمح استعمال تقنيات حديثة في الزّبر والتسميد والمعالجة الدوائية؛ تمّ التدرّب عليها من مهندسين جزائريين في ألمانيا وبلجيكا، من تحقيق طفرة أغرت المترددين الذين كانوا يرفضون غراسة التفاح سابقا، والإقبال على العملية، بالاستفادة من برامج الدّعم الفلاحي لهيئة الضّبط الفلاحي بدعم مئوي كامل من عوائد النّفط، فتوسّعت دائرة الشتلات الملقحة، ليصبح التفاح القاطرة التي تجرّ عربة التنمية الفلاحية لهذه المناطق.

أمّا بن بلاط بولخراص وهو أحد المستثمِرين في مشاريع عقارية وصناعية وفلاحية من بينها التفاح، فيرصد لـ"الترا جزائر" نموّ هذه الشعبة بولاية باتنة قائلاً: " الانتشار الكثيف لزراعة التفاح في إشمول و إينوغيسن ومريال ووادي الطاقة وحيدوسة، بدأ مع إنشاء المحيطات الفلاحية بين عامي 1998/1999، ليهطل الإنتاج الوفير المعوض للإنتاج العائلي الشحيح، بحلول 2004، غير أن بقاء السوق مشرّعة للتفّاح الأجنبي المدعّم دفع الفلاحين للتخلي عنه، لكنّ القرار الذي اتخذه وزير التجارة بالنّيابة آنذاك، عبد المجيد تبون، بوقف توريد التفاح الأجنبي لحماية المنتوج المحلي في 2017، مكَّن من نمو الإنتاج  في الفترة ما بين 2018 إلى 2024 بزهاء 30%، وهي "النّسبة القابلة للتطور مستقبلا".

وعلى سبيل المثال لا الحصر؛ يضيف بأنّ الإنتاج ارتفع من 1.2 مليون قنطار في موسم 2020/2021 إلى 1.6 مليون قنطار في الموسم الحالي. وكنتيجة لذلك، يشير إلى أنّ الإنتاج المحلي مكّن من حماية خزينة الدولة من نزيف العملة الصعبة.

تفاح باتنة وخنشلة 2

من الأرض للتسويق 

تطرح الوفرة المسجّلة في هذه الثّمرة، تناقضاً غير متناسب مع الأسعار الملتهبة التي تباع بها " فاكهة الجنّة" للمستهلكين، إذ نجم عن توقيف الاستيراد ما وصفه بـ" بارونات تمتّعوا في ساحة تنعدم فيها المنافسة".

من جهته، ينفي ياسين ناصري ذلك جملة وتفصيلا حيث يُعقّب: "ما يجب أن يعلمه الناس أن الفلاح المنتج يبيع التفاح بطريقة "باب الله"، أي أنّ التجار يشترونه خاما بالجملة من الأشجار، موضحاً بأنّ مشكلة غلاء الأسعار لا تخص المنتجين، بمعنى أنّها ليست مشكلة فلاحية بل تجارية، فسعر التفاح الملكي يباع في سوق الجملة بـ 380 دج، وهذا النوع لا يمثل سوى 5% من مجمل المنتج، أما التفاح المستهلك بكثافة من قبل المواطنين، فسعر جملته لا يتعدى 270 دج للكيلوغرام، فيما لا يتعدى سعر النوعية الثالثة 150 دج للكيلوغرام الواحد.

ومن خلال ما ذكره، يعتقد بأنّ "مكمن الخلل في سلسلة التسويق الهشّة تجار التجزئة، إذ أحملهم المسؤولية بالإضرار بالمنتج والمستهلك على حدّ سواءً، ولذلك تسعى مصالح التجارة وهيئات مدعّمة لهذا المنتوج حتى يكون في متناول الزبون، عبر أسعار تُغري على المزيد من الاستهلاك كي نحافظ على الإنتاج ونزيد وتيرته".  

تفاح الأوراسي ثورة الأرض

قبل أن يؤكد: " التفاح ثمرة موسمية تُستهلَك على مدار العام، وهذا ربما ما يدفع بعض التجار لشرائه وتخزينه في غرف تبريد مؤجرة، وبيعه بواسطة المضاربة".

وشدّد في السياق على أهمية "تفعيل آليات الرّقابة والتّقليل الوسطاء، الذين يبلغون أحيانا ثلاث حلقات بين المنتج والمستهلك". وأردف قائلا بأنّ "المضاربة لا تعني جميع التجار بل بعضهم، إذ يكلف التخزين خسائر جانبية، مرتبطة بالتوضيب واستعمال البلاستيك وغيرها، فيتسبّب التبريد في تقلص حجم ووزن التفاح ما بين 15% إلى 17%، كما أن 7% من البضاعة تتعرض للتلف تحت تأثير التجميد".

الحلّ الأوروبي

فيما يخصّ أسعار التفاح وغيره من الفواكه والخضار، فإنّ الحلّ من وجهة نظر بن بلاط، وجب أن يتمّ على الطريقة الأوروبية، وذلك ما يعني حسبه أنّ:" أسعار التفاح في الجملة تتراوح بين 150 دج حتى 270 دج ثم 350 دج، لكن المشكلة تبدأ من المخزن الذي يضيف للسعر 150 دج، ثم النّاقل الذي يزيد 150 دج، ليلجأ تاجر التجزئة لبيعه بزائد 250 دج محتسبا أتعاب الإيجار في الأحياء الراقية والكمية التالفة حيث تضيع في القنطار نسبة 10 كلغ".

وبما أنّ السلسلة طويلة فوجب اعتماد الحل الأوروبي حيث يعقد الفلاحون المنتظمون في تعاونيات اتفاقات بيع في المساحات الكبرى، مثل إيدان وأوشان وغيرها، لذا تجد أنّ الأسعار مستقرة حيث لا وسطاء بين المنتج والمستهلك غير هذه المحلات الكبيرة، لذا من الجدي أن تستثمر الدولة في بناء هذا النّوع من المساحات الكبرى للتحكّم في أسعار الخضار والفواكه برمّتها وليس التفاح الذي يبقى فاكهة كمالية".

تفاح باتنة وخنشلة 4

وكحل مؤقّت شرعت مصالح التجارة في فتح أسواق مباشرة لبيع التفاح عبر فضاءات محدّدة، مع تفعيل آليات رقابة التّخزين في غرف التبريد، وضبط طرقها المقنّنة، التي تفيد بضرورة التصريح القبلي بها في الآجال المحددة حتى لا تسقط بين فكي قانون مكافحة المضاربة الردعي، الذي سيعامل التفاح مثل معاملته للسميد والزيت والحليب، وفي هذا الصدد يرفع رئيس تعاونية تفاح بوحمامة اللبس القائم بين تسقيف الأسعار، وفضاءات الاستهلاك المفتوح.

ونبّه عبر " الترا جزائر" قائلا: " لا ينبغي الخلط بين هذه الفضاءات المخصّصة للمستهلكين والتّسقيف، إذ يخضع سوق التفاح للعرض والطلب، ومعطيات السوق تتماشى وفق الأسعار الحالية، أما الفضاءات المفتوحة فهي نقاط بيع تسير بدورها تبعاً لقاعدة تفاوضية بين المنتج والزّبون ومصالح الدولة، فالتفّاح الملكي الذي يقدّم في صندوق يضم 18 حبة كبيرة، يكلّف 380 دج يباع في الأسواق المخصّصة للمستهلك بـ 420 دينار جزائري، أما التفاح الكلاسيكي الذي يباع في صناديق 22 و26 و30 حبة ما بين كبيرة ومتوسطة سعره في الجملة هو 250 دج، ويباع في الفضاءات المخصصة ما بين 300 و350 دج وهذا سعر معقول جدا، لكنه لا يعني التسقيف بل صيغة تفاوضية تضمن مصالح جميع الأطراف المنتج و المستهلك، و قد ترتفع تلك الأسعار غير المسقَّفة تبعا لوضعية العرض و الطلب حسب جودة وحجم و نوع السلعة".

الوجهة الأفريقية والخليجية

خلال السنوات الأخيرة عانى الفلاحون في خنشلة من مشكلة عويصة في التزود بالمياه، فالحفر الكثيف للآبار أدّى لنُضوب المياه الجوفية لسهل ملاّقو، وهي قابلة للتجدد عبر الثلوج والأمطار، غير أنّ التغيّر المناخي أخلّ بالمعادلة، ما استدعى التفكير في طريقة أخرى لتجديد الحقول المنهكة.

ويقول الخبير المتقاعد عبد القادر الذي أنشأ مزرعته نواحي بوحمامة: "التفاح يستهلك المياه بكثرة، لكن الطريقة البولندية المؤسسة على الزراعة المكثفة وجدت حلاًّ بديلاً، إذ يمكن غرس أشجار تفاح كثيرة في مساحة صغيرة، وهذا النّوع من البساتين مفيد، من ناحية أنّه يمكن الفلاح من غرس 3 آلاف شجرة في الهكتار الواحد بدل 400 شجرة في المساحة نفسها، وبما أنّ جذورها قريبة من السطح فهي لا تستهلك المياه بكميات معتبرة، بل تستخدم طريقة التقطير، كما أنّها سهلة من حيث الجني و المعالجة الدوائية، وبالمختصر هذه الطريقة أقلّ كلفة و أكثر سرعة في الإنتاج خلال عام واحد، بدل أربعة، و اقتصادية ماليا و مائيا".

تفاح باتنة خنشلة 5

إلى هنا يشير ياسين ناصري إلى التوقيع على اتفاقية شراكة بين تعاونية بوحمامة اتّفاق مع مجموعة بولندية، موضّحا:" نستفيد من التجربة البولندية، بما أنّ هذا البلد واحد من أكبر منتجي التفاح في العالم، ولذا عقدنا بروتكول تعاون على مدار ثلاث سنوات، من خلال غراسة 300 هكتار، وبدأت هذه التجربة تمنح ثمارها، بدليل أنّنا نستعدّ لاستقبال مجموعة تونسية للاستفادة من هذه التجربة، التي تنتج تفاحا وفيرا بأقل تكاليف ممكنة".

يرى المستثمر بن بلاط أنّ تصدير التفاح للأسواق الأفريقية عملية ممكنة، ولكن بشرط توفير النّقل وتدعيم وسائل ذلك على أجهزة كبرى للتبريد، أما ناصري فيأمل "في تصدير حصص إلى بعض دول الخليج المهتمة بالتفاح الأوراسي، لأنّه أقل بعشرة مرات من حيث المعالجة الكيميائية"، مشيرا إلى أنّ ذلك غير مستبعد "إذا ما توصلنا لحلّ متفاوض عليه بخصوص عائق السعر، لذا فيمكننا أن نصادف تفاح بوحمامة في أسواق الدوحة والرياض والمنامة وغيرها من العواصم، وهذا ليس بالحلم بل هدف نسعى لتجسيده في إطار مخطط التصدير".