ألترا صوت - فريق التحرير
على عكس مسيرات الـ22 من شباط/ فبراير الماضي، تمّت الدّعوة إلى مسيرات الفاتح آذار/مارس في الجزائر بثقة زائدة. إذ قلّ الشكّ في كونها ستستقطب قطاعًا واسعًا من الجزائريين، وفي أنّها ستكون سلمية وعرسًا يُمارس فيها الشّعب فرحه بإرغام "العصابة" على الخروج لا فرحة بترشّح الرّئيس عبد العزيز بوتفليقة، كما قال الوزير الأوّل أحمد أويحي.
بات الخيار السّلميّ للاحتجاجات في الجزائر مجمعًا عليه شعبيًا، بما يجسّد خوف الجميع من العودة إلى مربّع العنف في التسعينات
ما أن انتهت صلاة الجمعة في مساجد الولايات الثّماني والأربعين، حتّى بدأت النّواة الأولى للمسيرات الشّعبيّة الرّافضة لولاية خامسة للرّئيس عبد العزيز بوتفليقة، تتشكّل عفويًّا، وراحت تكبر مثل كرة الثّلج، حتّى أعطت انطباعًا بأنّ الجزائر كلّها خرجت ولم يبق في البيوت أحد، مردّدةً شعاراتٍ دلّت على أنّ الشّعب، الذّي صمت عشريتين من الزّمن كان يُتابع الصّغيرة والكبيرة ولم يكن راضيًا عن وضعه، بل كان في كلّ مرّة يُعطي الفرصة للرّئيس ومحيطه لأن يباشروا الإصلاحات اللّازمة، لكنّهم انتهوا إلى اختزال البلاد في صورة لرئيس لم يستطع أن يقول لهم "صباح الخير" منذ 2012، فوق ذلك تمّ ترشيحه لولاية خامسة، "ليستكمل الإصلاحات".
اقرأ/ي أيضًا: الطّلبة يلتحقون بالحراك الشّعبي ضدّ العهدة الخامسة لبوتفليقة
شعارات موحّدة لهدف واحد
بالإضافة إلى النّشيد الوطنيّ ونخبة من الأناشيد، التّي تشكّل الوعي الوطنيّ الجماعيّ للجزائريين على اختلاف أجيالهم، ردد المحتجون شّعارات التقوا عليها جميعًا حسب الفيديوهات التّي تناقلوها عبر مواقع التّواصل الاجتماعيّ، على غرار "هذا الشّعب لا يريد بوتفليقة والسّعيد"، والسّعيد هو شقيق الرّئيس، الذي يندر ظهوره لكنّه يحكم باسمه ويتحكّم في مفاصل الحكم والحكومة، و"جيبو البيّاري والصّاعقة، ماكانش الخامسة يا بوتفليقة"، والبيّاري والصّاعقة هما أعتى وأقوى فرقتين في جهاز الدّرك والشّرطة، والشّعار يقول إنّ الولاية الخامسة للرّئيس لن تكون حتّى وإنّ تمت مواجهة الشّعب الرّافض لها بالفرقتين المذكورتين، و"جمهوريّة ماشي مملكة"، أي أنّ الجزائر جمهوريّة يحكمها مبدأ التّداول على السّلطة لا مملكة محكومة باحتكار العرش.
كما رفع المتظاهرون شعارات خاطبوا بها شخصيات بعينها في محيط الرّئيس، جاء في مقدّمتها الوزير الأوّل ورئيس ثاني أكبر حزب حاكم أحمد أويحي، ويُعرف في الأدبيات الشّعبيّة والإعلاميّة بـ"رجل المهمّات القذرة"، إذ أطلق تصريحات مستفزّة للضّمير الشّعبيّ مؤخّرًا من قبيل أنّ الشّعب سعيد بقبول الرّئيس التّرشّح لعهدة خامسة، وأنّ المظاهرات بدأت في سوريا بالورود لكنّها انتهت إلى الدّم والدّموع .
يُشار إلى أنّ المطلب الرّئيسيّ للجزائريين في مسيراتهم، منذ انطلاقها يوم الـ22 من شباط/فبراير الماضي، كان إسقاط خيار الولاية الخامسة للرّئيس بوتفليقة، لما تعنيه من تمكين محيطه الفاسد من الاستمرار في استنزاف مقدّرات البلاد وإجهاض فرص تقدّمها، غير أنّ مطلب إسقاط النّظام ككلّ برز بشكل محتشم في مسيرة أمس الجمعة، بما فُهم على أنّ تأخّر المحيط الرّئاسيّ في الاستجابة للمطلب الشّعبيّ بسحب ترشّح الرّئيس جعل الشّارع يصّعد من مطالبه، وهم إن لم يفعلوا هذه المرّة، فسيصبح مطلب إسقاط النظام مطلبًا معمّمًا شعبيًّا في الجمعات القادمة.
فيسبوك يكسر الحصار
عكس غيابها شبه التّام في مسيرات الجمعة الماضية، فقد كانت مرافقة قطاع واسع من القنوات الفضائيّة المستقلّة للحراك الشّعبيّ أمس الجمعة لافتًا، إذ فتحت الخطّ لمراسليها في الولايات الثّماني والأربعين، وأطلقت جلسات للنّقاش والتّحليل. مع ذلك بقي موقع التّواصل الاجتماعيّ فيسبوك أكثر المنابر تأثيرًا واستيعابًا للصّور والفيديوهات والمنشورات المؤرّخة للّحظة.
يقول النّاشط صالح بلمهدي لـ"الترا صوت" إنّ الجزائريّ لم يعد قادرًا على انتظار الإعلام التّقليديّ لينقل اللّحظة التّاريخيّة، التّي يصنعها وتصنعه، "لذلك فقد بات يؤرّخ لنفسه بنفسه، ليضمن متعة ذلك ويضمن سرعة الوصول ويضمن عدم تحريف وتزييف وتوجيه الحدث". من هنا، يواصل صالح بلمهدي، "فقد كانت الأيدي تحمل الأعلام واللّافتات من جهة، والهواتف الذّكيّة من جهة ثانية، بما جعلها سلاحًا سلميًّا في متناول المتظاهرين، وهذا ما دفع الحكومة إلى التّشويش على تدفّق الإنترنت قبل وأثناء المسيرات".
محاولات تشويه
بات الخيار السّلميّ للاحتجاجات في الجزائر مجمعًا عليه شعبيًا، بما يجسّد خوف الجميع من العودة إلى مربّع العنف والإرهاب في تسعينات القرن العشرين، ورغبتهم في تفويت الفرصة على الحكومة لأن تلجأ إلى استعمال العنف. من هنا كان شعارا "سلمية.. سلمية، الجزائر حرّة ديمقراطية"، و"الشّعب والجيش خاوة" أي إخوة، في صدارة الشّعارات المرفوعة. كما ظلّت صور تقديم الورود لرجال الأمن مكتسحة لمواقع التّواصل الاجتماعي.
غير أنّ التّلفزيون الحكوميّ ومنابر أخرى بثّت مشاهد لجأ فيها متظاهرون في الجزائر العاصمة تحديدًا إلى استعمال العنف، منها السّطو على خزانة فندق وحرق سيارة، وإصابة حوالي 50 شرطيًّا وعشرة متظاهرين وموت شخص بسكتة قلبية هو نجل رئيس الحكومة المؤقّتة خلال ثورة التّحرير يوسف بن خدّة. وبادرت المديريّة الوطنيّة للأمن إلى الاعتراف بأنّ الفاعلين ليسوا من المتظاهرين وكانوا تحت تأثير الحبوب المهلوسة.
صبّ الجزائريون من المتظاهرين أنفسهم جام غضبهم على هذه السلوكات، واعتبروا أصحابها مندسّين لتشويه سلمية المظاهرات وبرمجتها على العنف حتّى تجد الحكومة ذريعة لاتخاذ إجراءات ردعية في المستقبل. وأشاروا إلى أنّ هذه الحوادث لم تقع أثناء سيرورة المسيرات بل بعد تفرّقها، لأن المتظاهرين كانوا يردعون فورًا كلّ من يُبادر إلى الخروج عن سلمية الحركة.
سياسة النعامة
بالإضافة إلى محاولة تشويه الحراك الشعبيّ في خرجته الرّئيسيّة الثّانية، لتكريس تخويف الجزائريين من الانفلات الأمنيّ والعودة إلى مربّع العنف، عمدت الجماعة الحاكمة إلى اتخاذ إجراءات أخرى وصفت بسياسة النّعامة في حماية نفسها بدسّ رأسها في الرّمل مع ترك بقية جسدها للعاصفة.
رصد الإعلامي نجيب بلحيمر في تدوينة له في فيسبوك جملة من هذه الإجراءات بالقول إنّه كان ثمّة سعي واضح لمنع تشكّل مسيرة كبيرة، "ولذلك عمدت الشّرطة إلى إعادة نشر قوّاتها في مناطق تسمح لها بحصار المتظاهرين فيما يشبه الجزر المعزولة، وهذا يُعطي الانطباع بأنّ الذّين خرجوا إلى الشّارع كانوا أقليّة".
اقرأ/ي أيضًا: تعتيم إعلامي على حراك الشعب الجزائري.. الرد في الشارع وفيسبوك
"على مستوى الإعلام، كانت التّعليمات واضحة بممارسة التّعتيم على المستوى الداخليّ من خلال منع القنوات الخاصّة من البثّ المباشر، واستمرار تلفزيون الحكومة في سياسة دسّ الرّأس في التّراب، وعلى المستوى الخارجيّ كان هناك قرار بحرمان الصّحافيين الأجانب من تأشيرة الدّخول إلى الجزائر". ليخلص إلى القول: "المفارقة هنا هي أنّ كلّ هذه الإجراءات كانت عديمة التّأثير".
كان المطلب الرّئيسيّ للجزائريين في مسيراتهم، منذ انطلاقها يوم الـ22 من شباط/فبراير، إسقاط الولاية الخامسة للرّئيس بوتفليقة
عرّت مسيرات أمس الجمعة وما سبقها من مسيرات للطّلبة والصّحفيين والمحامين المحيط الرّئاسيّ وجعلت إقدامه على تقديم ملفّ التّرشّح غدًا الأحد للمجلس الدستوريّ خطوة انتحاريّة، لذلك يُتوقّع الاستجابة للمطلب الشّعبيّ بسحب الترشّح في السّاعات القادمة، خاصّة في ظلّ حديث عن عودة طائرة الرئيس من سويسرا حيث يتواجد للعلاج بدونه.
اقرأ/ي أيضًا: