21-مارس-2016

جانب من احتفال الجزائريين بشاو ربيع (الترا صوت)

تحضر منطقة برج بوعريريج في التاريخ المعاصر للجزائر، بصفتها واحدة من المناطق التي قادت مقاومة الاحتلال الفرنسي، من خلال ثورة الشيخ المقراني عام 1871، أين كان الدفاع عن الأرض بصفتها عرضًا وحضنًا وذاكرة وهوية عنوانَ هذه المقاومة التي انتهت بإقدام فرنسا على نفي رموزها إلى كاليدونيا الجديدة، حيث لا يزال أحفادهم على قيد الإحساس بالانتماء إلى مسقط رؤوس أجدادهم.

يحتفل أهالي برج بوعريريج في الجزائر يوم 21 آذار/مارس من كل عام بـ"شاو ربيع" وهو احتفال بقدوم الربيع تخرج خلاله المدينة وضواحيها إلى الساحات

شاهدنا ذلك في السلسلة الوثائقية التي أعدها المخرج الجزائري سعيد عولمي، أين التقى هناك نخبة من هؤلاء الأحفاد، واقترب من حنينهم الذي أبكى الجزائريين، في عز سنوات الجمر والإرهاب، ومنحتهم المشاهد المؤثرة لهؤلاء المنفيين، وهم يقبّلون حفنات التراب التي جلبها أجدادهم معهم في القرن التاسع عشر ويجعلون العودة إلى أرضهم أقصى أمانيهم، طاقة جديدة للتغلب على يوميات الإرهاب ومخططاتهم.

اقرأ/ي أيضًا: عاشوراء المغرب.. يوم للفرح والفرجة

ارتباط إنسان برج بوعريريج بالأرض تجلى أيضًا في تظاهرة باتت حكرًا عليه، رغم أننا نجد تجليات لها في مناطقَ أخرى، هي الاحتفال بقدوم الربيع يوم 21 آذار/مارس من كل عام، حيث تخرج المدينة وضواحيها، كبارًا وصغارًا، إلى المساحات الخضراء في مواكبَ توحي لمن لا يعرف خلفية هذا الخروج بأن هناك نزوحًا جماعيًا. تسمى هذه التظاهرة "شاو ربيع" وتتكون التسمية من كلمتين، كلمة "شاو" الأمازيغية التي تعني مطلع الشيء وكلمة "ربيع" العربية، أي مطلع الربيع، في إشارة إلى التعايش الثقافي والإنساني بين العرب والأمازيغ الذين يتقاسمون أرض المنطقة منذ قرون.

للتظاهرة تعابيرُ فنية تتعلق باللباس والأهازيج والأطعمة، بما يجعل منها مهرجانًا حقيقيًا لا نجد له مثيلًا في الجزائر التي تحتفي ثقافتها الشعبية بمواسمَ فلاحية كثيرة، منها مواسم الحرث والحصاد وجني الزيتون في الشمال وموسم جني التمور في الجنوب. من هذه الأطعمة المرتبطة بتظاهرة "شاو ربيع" حلوى "المبرجة" المصنوعة من السميد والزيت أو السمن والتمر المعجون، تقطّع مثلثات ومربعات، وتوزع أثناء تبادل الزيارات بين الأسر، بمناسبة حلول الربيع، وفي الخروج الجماعي إلى الجبال والغابات والحقول يوم 21 آذار/مارس.

أكثر المنخرطين في الاحتفال بهذا اليوم والفرح به هم الأطفال، إذ لا تخلو يدُ طفل واحد منهم من قفة صغيرة مليئة بحلوى "المبرجة" والفواكه والمكسرات، مرددين أغنية الاحتفال التي يقول مطلعها "شاو ربيع ربعاني/ العام الجاي تلقاني/ في الفيلاج الفوقاني"، أي أنك ستجدني العام القادم في انتظارك أيها الربيع في الدرب الأعلى، بما يشبه وعدًا أو أمنية.

اقرأ/ي أيضًا: زواج الواحات.. طقوس مصر الشعبية

صحونا باكرًا، الإثنين، فوجدنا المدينة قد سبقتنا إلى ذلك، دبيب غير عادي في الشوارع، سرعان ما انتقل إلى خارجها، خاصة إلى غابة بومرقد شرقًا. مئات السيارات محملة بالمأكولات والبشر تغادر المدينة، وآلاف النساء والأطفال والرجال والشباب يمشون على أقدامهم. للألبسة الجديدة ذات الألوان الزاهية هيمنة على المشهد، وللأهازيج المرحبة بالربيع حضور ينعش الأرواح، عرب وأمازيغ من أجيال تختلف الفضاءات التي ترتادها داخل المدينة، ذلك أن هناك تباينًا بات صارخًا بين الأجيال في الجزائر من حيث رغباتها وميولاتها، لكنها توحدت في الخروج إلى الطبيعة في "شاو ربيع".

لاحتفال "شاو ربيع" في برج بوعريريج تعابير فنية تتعلق باللباس والأهازيج والأطعمة، بما يجعل منها مهرجانًا حقيقيًا لا نجد له مثيلًا في الجزائر

يتعامل الناس هنا، يوم الاحتفال على أنهم أسرة واحدة، إذ تكون النسوة والفتيات أميلَ إلى السفور، كما أنهن لا يجدن حرجًا في إعلاء أصواتهن وضحكاتهن، وإبداء سرورهن، تمامًا كما يحدث في عرس عائلي.

اقتربنا من كوكبة فتيات كن يلبسن اللباس المميز للأمازيغيات، خاصة "الفوطة"، وهي قطعة قماش مزركشة تربط على الجزء السفلي من الجسد، وسألناهن عمّا تمثله مشاركتهن في الاحتفال، فلخصن إجابتهن بزغرودة جماعية جعلت المحيطين بنا يلتفتون ثم يتوافدون إلى المكان ويطلقون العنان للرقص والغناء. الجميع كان متفاعلًا مع اللحظة بشكل يوحي بحميميتها.

هذه الحميمية باتت تجد طريقها فورًا إلى مواقع التواصل الاجتماعي، من خلال الصور والفيديوهات التي سُخرت لها هواتفُ وكاميرات متطورة، يحملها شباب لا يجدون اعتراضًا من أحد. يقول الشاب محمد، 27 عامًا، إنه ما كان ليجرؤ على تصوير الفتيات في مناسبات أخرى، "كنت أجد صعوبة في ذلك حتى في الأعراس العائلية، أما هنا فها أنت تراني أصور بشكل عادي، بل إن من أصورهم أنفسهم يبادرون إلى أن يطلبوا مني استعراض الصور أمامهم ويطلبون مني حذف الرديئة منها لدواع فنية".

نقلنا هذه الملاحظة لأكثر من طرف، خاصة الجيل القديم باعتباره أكثرَ الأجيال تحفظًا، باعتباره تربى في إطار ثقافة الحريم، فلمسنا أن هذا التسامح يعود إلى أن الجميع يرون في "شاو ربيع" مظهرًا من مظاهر الهوية الثقافية والاجتماعية، مما يرفع هذه التعاملات إلى مصاف الإحساس الجماعي بالانتماء المشترك.

"هيا باسم الله".. عبارة تسمعها عشرات المرات، من العائلات وهي تفرش الزرابي لتناول الطعام، في مقدمته حلوى المبرجة، إذ من الممكن جدًا أن تنضمّ إلى أي عائلة قصد مشاركتها الطعام، بعيدًا عن أي تشنج أو حرج، بل إن هناك روحًا سائدة تسمح بالتندر والنكت وتمثيل مشاهد الخطوبة والزواج. سألنا عن مدى ذهاب هذه المشاهد إلى الحقيقة، فقيل لنا إن هناك زواجات كثيرة تمت انطلاقًا من التعارف في "شاو ربيع".


 

 

 اقرأ/ي أيضًا:

حفلات التخرج في السودان.. طقوس مستجدة

أوردو.. عاصمة البندق وسياحة العرب